كررت الصحف الأمريكية خلال السنوات الأخيرة، استخدام العنوان «سقوط أسرة كلينتون» لأي خبر يتناول إخفاقاً سياسياً للسيدة هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، والمرشحة الخاسرة عن الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي أجريت في نوفمبر 2016، وتمخضت عن فوز الرئيس السابق دونالد ترامب، بالرئاسة، وقبل كل ذلك، فهي السيدة الأولى السابقة في الولايات المتحدة على مدى 8 سنوات متصلة، من 1993 إلى 2001، وهي مدة بقاء زوجها، بيل كلينتون، الرئيس الأمريكي الأسبق، في البيت الأبيض.

واليوم لم يعد هذا العنوان يشير إلى سقوط أسرة كلينتون فعلياً بمعنى خروجها من ساحة الأحداث ودائرة صُنع القرار الأمريكي، بقدر ما يشير إلى سقوط تيار اليسار المعتدل، والذي أسسه كلينتون داخل الحزب الديمقراطي، ومنه إلى الولايات المتحدة إبان فترة حكمه.

بات واضحاً أن اليسار في الولايات المتحدة صار أكثر راديكالية وتشدداً، وبدأ صوت التقدميين يعلو داخل الحزب الديمقراطي، وبات نفوذهم متزايداً وتوجهاتهم وآراؤهم أكثر تطرفاً، حتى كوّنوا تياراً يمكن تسميته «اليمين الديمقراطي» داخل الحزب.

وكلما اكتسب اليمين الديمقراطي أرضاً، سواء داخل الحزب أو على مستوى الولايات المتحدة ككل، انحسر تيار اليسار المعتدل، وانحسرت معه الشعبية السياسية لآل كلينتون.

ويبدو أن التقدميين داخل الحزب الديمقراطي اقتنعوا أخيراً بصحة رأي الصحفي والناقد السياسي الأمريكي من أصل بريطاني، الراحل كريستوفر هيتشنز، في كلينتون وحقبة رئاسته، حينما وصفها بأنها كانت فترة من أنصاف الحلول، بينما وصف كلينتون نفسه بأنه لم يكن فارساً سوى في اعتقال الأقليات، وتجريد الفقراء من ممتلكاتهم.

وثمة وقائع محددة ومتراكمة تؤكد هذه الحقيقة. فعلى سبيل المثال، حينما وجه وزير الخزانة في عهد كلينتون انتقاداً إلى خطة دعم الاقتصاد الأمريكي في مواجهة التداعيات الاقتصادية الناجمة عن تفشي جائحة «كوفيد 19»، وهي الخطة التي قدمها الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن، المنتمي إلى الحزب الديمقراطي، كان رد فعل غالبية أعضاء الحزب تجاه الوزير الأسبق هو التوبيخ الشديد ووصفه بأنه يتبنى تفكيراً قديماً.

وحينما حذر أحد المحللين الاستراتيجيين إبان حقبة كلينتون أعضاء الحزب الديمقراطي من الابتعاد عن القضايا المتعلقة بالعدالة العرقية، لم يعره أحد داخل الحزب أي نوع من الاهتمام. إن تيار اليسار المعتدل الذي حكم الولايات المتحدة يوماً، ولفترتين رئاسيتين متتاليتين، يعاني اليوم كي يجد من يسمعه.

وإذا نظرنا إلى المشهد في نطاقه الكلي، بمعنى الولايات المتحدة ككل، فالحق إن التحوّل الأمريكي الأخير المزعوم صوب اليسار، والذي بالغ العديد من المراقبين في وصفه، كما بالغ مؤيدوه في الإطراء عليه، يعاني حالياً عثرات لا تخطئها العين.

لدينا مثلاً خطة البنية التحتية التي تقدم بها بايدن، يُقال إنه اضطر إلى قبول مساومات بشأنها أجبرته على خفض قيمتها الإجمالية كثيراً إلى أقل من نصف قيمتها الأصلية، وهي 2.3 تريليون دولار، وذلك كي يتسنى له تمريرها من الكونغرس.

ولدينا أيضاً التشريع الذي تقدم به الديمقراطيون للكونغرس بشأن إصلاحات في كل من حقوق التصويت والتمييز في الرواتب، فمن غير المُرجّح أن يمررها الكونغرس بصيغتها الحالية.

وبات مُجمل الوضع الراهن أن الأساس التشريعي الذي يستند إليه بايدن حالياً يقتصر على خطة الدعم في مواجهة «كوفيد 19» فقط، وهي خطة تتكون بصفة رئيسية من تدابير مؤقتة. كل هذا يحدث قبل موعد انتخابات التجديد النصفي لأعضاء الكونغرس، والتي نال الديمقراطيون الهزيمة فيها في عهد آخر رئيسين أمريكيين منتميين إلى حزبهم.

نتائج الانحسار الذي يعانيه تيار كلينتون لن تتوقف عند مؤيدي التيار فحسب، وإنما ستطال الحزب الديمقراطي واليسار الأمريكي عموماً، ولكن إذا نجح الحزب واليسار في تجاوز تلك النتائج، فلن ينجح مؤيدو كلينتون في ذلك، إنهم الآن بصدد ضحكتهم الأخيرة.