لا يوجد بين الدول الديمقراطية ما يحتوي على درجة كبيرة من التركيب والتعقيد، مثل النظام السياسي الأمريكي الذي يقدم الكثير من الدروس لدول العالم، في كيفية الممارسة الديمقراطية داخل دولة قارية وفيدرالية، وقائمة على الفصل بين السلطات.

ولأسباب كثيرة في مقدمتها أن الولايات المتحدة دولة عظمى تتصدر النظام العالمي منذ الحرب العالمية الأولى.

وفي آخرها أنها الأكثر وضوحاً وشفافية أمام العالم، فإنها محط الاهتمام والمتابعة. ولعل الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي تنافس فيها الحزبان الرئيسيان – الجمهوري والديمقراطي – والمرشّحان ترامب وبايدن، قدمت صورة واضحة لكيف تجري التجربة التي تنقل كل تفاصيلها الأقمار الصناعية للعالم. ومع ذلك فإن هذه الانتخابات ربما تكون فاصلة في تشكيل الصورة السياسية الأمريكية لدى الدنيا بأسرها، حيث تضمنت اختباراً كبيراً لمدى سلاستها ونزاهتها.

وجاء هذا الاختبار عندما صوت الأمريكيون للمرشح الديمقراطي وبأغلبية في المجمع الانتخابي تماثل تلك التي حققها ترامب ووصفها بأنها «ساحقة» و«تاريخية». وعلى الرغم من هذه النتيجة الواضحة، رفض ترامب قبول النتيجة، وأصر هو وحلفاؤه على أنه الفائز الشرعي.

وبذلوا قصارى جهدهم لإلغاء الانتخابات، ورفع دعاوى قضائية في المحاكم في جميع أنحاء البلاد، والضغط على مسؤولي الانتخابات المحليين للتوصّل إلى طرق لإيجاد المزيد من الأصوات لصالحه، أو استبعاد الأصوات الصالحة لبايدن.

هذه الحملة لم تتوقف حتى وقت كتابة هذا المقال، وزاد عليها وجود دعوات غير مسبوقة لحكم غير ديمقراطي.

طبقاً لمجلة «نيوزويك» في ٣٠ مايو المنصرم، قال مايكل فلين مستشار الأمن القومي السابق في إدارة ترامب «إن انقلابًا عسكريًا على غرار ميانمار، يجب أن يحدث في الولايات المتحدة». وقالت الفنانة الشهيرة باربرا سترايساند في تغريده لها «إن الحزب الجمهوري يريد دولة استبدادية». ودللت على ذلك بالجهود التي يبذلها الحزب في الولايات التي يتحكم فيها الجمهوريون، من أجل تغيير قوانين الانتخابات بحيث تقيّد حق الانتخاب.

المسألة تبدو فيها الكثير من المبالغة حيث بنى الجمهوريون اتهامهم للفوز الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية على الطريقة التي تمت بها عملية التصويت حيث قام بالتصويت جماعات لم يكن لها حق نتيجة التساهل الكبير مع الأقليات اللاتينية والسوداء الذين صوتوا دون تأكيد على عما إذا كانوا مواطنين أم لا. ولذا فإن جهودهم الحالية ترمي إلى إزالة أثر الهجرة أولاً، بالتأكيد على ضرورة وجود بطاقة خاصة بالانتخابات؛ وثانياً، حضور هؤلاء إلى مناطق محددة للانتخاب.

وثالثاً، إذا كان التصويت بالبريد وارداً، فإن شروطاً كثيرة لا بد من مصاحبتها لإثبات الشخصية والزمن اللازم للتصويت والفرز. كل ذلك من الناحية الديمقراطية بات يمثل قيوداً على العملية الانتخابية التي تقوم في أساسها على مدى إقبال الناخبين على ممارسة حقوقهم السياسية. ولكن ذلك ليس القضية الوحيدة التي تقع في ظل النظام السياسي الأمريكي.

فالحقيقة هي أن هناك أكثر من قضية يجري التنازع عليها، وكلها تدور حول آليات الممارسة التي استقرت في العرف الديمقراطي. وعلى سبيل المثال فإن حقوق «المماطلة أو Filibuster» التي لم يرد بها نص في الدستور الأمريكي تكوّنت في مجلس الشيوخ على مدى عقود.

ويقوم هذا الحق على أنه لا يمكن مقاطعة عضو مجلس الشيوخ أثناء كلامه اللهم إلا إذا قرر ثلثا أعضاء المجلس (٦٧ صوتاً) إسكاته، وهي أغلبية يصعب الحصول عليها. نتيجة ذلك فإن الحزب المعارض لقانون أو قرار يمكنه وقفهما من خلال استمرار الأعضاء في الكلام.

وتشهد مضابط مجلس الشيوخ الأمريكي على وجود نصوص لروايات، وأحياناً كتب للطبخ، استخدمها الأعضاء لإغلاق الطريق أمام إجراء تشريعي. وفي مجلس الشيوخ الحالي حيث يتساوى عدد الأعضاء بين الجمهوري والديمقراطي، فإن هذا الأخير بات لا يستطيع تمرير أعماله التشريعية بالأغلبية (التي تشمل رئيس مجلس الشيوخ ونائب الرئيس في نفس الوقت كاميلا هاريس).

وجهة النظر الديمقراطية تسعى إلي إلغاء هذا الحق، بينما يرى فيه الجمهوريون تقليداً يماثل الدستور، ويخافون هنا ليس فقط على حق المماطلة، وإنما أن يمتد التعديل إلى المحكمة الدستورية العليا، التي توزيعها الحالي ٦ يميلون جمهورياً، و٣ يميلون ديمقراطياً، فيعدل بايدن أعداد المحكمة – غير المقررة دستورياً – بحيث تسمح بإضافة أعداد ديمقراطية الهوى. ولكن ذلك ليس آخر الظلال!

* كاتب مصري