تستبطن الشيخوخة في أحشائها احتمالين أساسيين: الحكمة أو اليأس. وعبر اختيار أحدهما تكتب الدولة مصيرَها: الفناء والتلاشي، أو الاستمرار وتجديد شباب الزمن. هل هناك خيار ثالث؟

وما ينطبق على الدولة ينطبق على الإنسان، رغم أن حتمية شبنجلر تقول إن للدول أزمنة نشوء وفتوة وازدهار ومنعة، ثم يأتي الخريف فيقوّض الأركان فتتساقط الأوراق الذابلة، حتى لا يبقى من الشجرة إلا هيكل عارٍ من الأغصان المشبعة بالأحزان وذكريات الاخضرار.

هكذا جرى مع الإمبراطوريات القديمة، ولن ينتهي بالإمبراطورية السوفييتية التي تفرّقت شعوباً وقبائل، وتنازعت واقتتلت، حتى ذهبت ريحها وأصبحت دولاً صغيرة تتناهبها الأحلاف.

ولكنّ هذا ليس قدراً حتمياً. بمقدور التاريخ أن يتمرد على الناموس، وأن يجترح حتميته الخاصة، وهذا يحتاج إلى اقتراح حلول عبقرية تُبقي شباب الدولة، وتمدّ في فتوتها. ألم يُفنِ جلجامش عُمره بحثاً عن عشبة الخلود؟

بعث نضارة الدولة لا يكون بالأهازيج، والتغنّي بالمجد التليد. الأهازيج لا تصلح إلا لترميم النرجسيات، وبعث نار قليلة في رماد كثيف، وهذا ما يقود، في أكثر الاحتمالات تفاؤلاً، إلى «شيخوخة صالحة» تليق بالجاهات، وقبول العطوات، وسرد الذكريات على الأحفاد في الليالي الممطرة.

على الماكينة ألا تتوقف، إن شئنا الإقامة في زمن يقاوم تقلّبات الزمن وعادياته. تسلّح، تقول الحكمة، بالعقل وفتوحاته وانتسب للعلم وإملاءاته، ولا تستسلم لإغراءات الماضي. هل أنقذ الماضي اليونان (التي أنتجت حضارتها القديمة الفلسفة والديمقراطية) حينما أشهرت إفلاسها؟

هل يترفّق الماضي بإيطاليا (وريثة صولجان الإمبراطورية الرومانية) عندما تترنّح تحت سطوة المديونية وتآكل الدخل القومي؟ دع المسارح الأثرية تحتفي بالسياح، وصوّب نظرك إلى المستقبل، ولا تجعل منه ماضياً ومقبرة ومزاراً لالتقاط الصور.

ثمة دول في المشرق العربي، المبتلى بصهيل السيوف الدائم، لا تزال تفعل في إطار «التخطيط» ما يفعله عمال المياومة: خبزنا كفاف يومنا. وهذا يعني اقتصاداً متعثّراً، ولجاناً لتقطير اليأس، ومديونية فلكية، ووهماً عابراً للقارات بأن الدنيا بخير.

كلا يا سيدي، ما هكذا تكون الدنيا بخير. تكون البلاد والعباد بخير حينما يضعون خطة حقيقية لمئة عام مقبلة، ويضعون تحديات هي أقرب للمستحيل. ما المستحيل إن لم يكن وجهاً آخر للعجز وقلة الحيلة وضآلة الخيال؟

أسرف شبنجلر حينما استغرق في التوقعات بانهيار الحضارة الغربية، كما أسرف فوكوياما من بعده في تقديراته بنهاية التاريخ، في أعقاب تبشيره بالديمقراطية الليبرالية، ونهاية التطور الأيديولوجي للإنسان.

الحتميات تصلح أكثر للعلوم الطبيعية. أما ما ينتجه الإنسان فخاضع لحتمية ذاتية يصنعها بنفسه: بمقدور الكائن أن يودي بنفسه إلى التهلكة عبر نظام حياتي وصحّي مدمر، فينقصف زمانه في ميعة العمر. ويصلح الأمر مثالاً للدول التي يمكنها عدم الاستسلام لما أنجزته وأبهرت به العالم، وأن تظل تصعد السلّم الذي لا نهاية لدرجاته.

وهذا يحتاج جهداً جباراً وهمّة تتوارثها الأجيال. ولا بد في كل ذلك أن يكون ثمة عقل ناظم للدولة يعمل بكفاءة وحرية، ولا يترك برغياً في الماكينة الكبرى دون أن يتفقده ويوليه العناية اللائقة. وكم من براغٍ تالفة أهلكت مشاريع عملاقة.

شيخوخة الدول، وهذا ليس سراً، نتاجٌ متراكم لأخطاء تبدأ صغيرة، ثم تتنامى وتتفشى في الجسد مثل السرطان. وإذا عطفنا على الأخطاء غياب الرؤية، وانعدام الحاكمية الرشيدة، وانهدام العدل، وتشظّي الإنسان حتى لَينشقَّ على ذاته، فإننا لا محالة أمام ارتطام فاجع بالمصير الذي لاقته دول أهملت حاجات البشر، وانشغلت بالأناشيد، فصارت بيتاً شعرياً حائراً في قصيدة يردّده رجل متخم بالسأم، ولا يجد قوت يومه.