لم يكن جيلنا الذي تربّى في ظل الاتحاد وشهد بداياته، يدرك جيداً ما تعنيه المصطلحات المجتمعية الحديثة، التي يتم تداولها حالياً أو مدلولاتها، ولكنه عايشها فعلياً على أرض الإمارات منذ عقود، إذ إن العولمة والتسامح والتعايش والعيش المشترك وتقبّل الآخر ونبذ الكراهية هي مصطلحات جديدة في معانيها، وقديمة في تعاطي الناس في مجتمعنا لها.
لقد عايشنا فعلياً تلك المصطلحات، وعرفناها قبل أن تدخل إلى حياتنا في ثوبها القانوني الجديد ومدلولاتها العصرية الحديثة، حيث نشأ جيلنا في مجتمع متنوّع الأطياف والأديان والثقافات وحتى لون البشرة، وورثنا من أجدادنا، الذين غاصوا إلى أعماق البحر بحثاً عن اللؤلؤ، كل مدلولات التعايش الاجتماعي المرن القائم على المصالح المشتركة والتعاون مع الآخر من أجل بناء مجتمع إنساني وأسلوب حياة متكاملة قائمة على التعاضد والتآزر، ومعتمدة على تعاون وعمل كل الجماعات والأفراد، كان عمل كل فرد يكمل الآخر، وحياة كل فرد معتمدة على الآخر. هذه هي الحياة التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا وهي الحياة التي نجتهد اليوم، لكي ننقلها إلى أبنائنا، أجيال المستقبل.
لم يشهد مجتمعنا نزاعات طائفية أو عرقية على الرغم من تعدد الطوائف والأعراق فيه، ولم يشهد حركات سياسية واجتماعية تنهك المجتمع وطبقاته، على الرغم من بساطة البنى التقليدية وربما هشاشتها، ولم يشهد صراع الطبقات على الرغم من وجودها في البنية الهيكلية للمجتمع. فعلى الرغم من صعوبة الحياة، إلا أنها أملت على الجميع التعاون عوضاً عن التصارع، والاتفاق عوضاً عن الاختلاف، والسير في طريق واحد مشترك عوضاً عن السير في طرق وعرة مختلفة.
لقد كانت التربة مهيّأة لظهور عقد اجتماعي جديد ونظام سياسي فريد، وكان مجتمعنا على موعد مع هذا التغيّر الإيجابي ومتقبلاً له. وما أن حدث هذا التغيير حتى استطاع مجتمعنا التعاطي معه بشكل سلس بكل إيجابياته وسلبياته. فمن المعروف أن التغيّر الذي حصل في مجتمعنا اختصر كل أساليب حياتنا السابقة ودمجها في أسلوب عصري جديد. فقد اختلطنا بأعراق عديدة ومذاهب عقدية جديدة وأساليب حياة متنوعة، ودخلت علينا قيم مختلفة كل الاختلاف عن قيمنا المجتمعية وأحياناً تتعارض معها، ومع ذلك بقي بيننا ذلك الاحترام لثقافة الاختلاف الذي هو من المفروض أن يكون ديدن البشر. فاحترام ثقافة الاختلاف هو ما يميّزنا عن غيرنا، وما يجعل مجتمعنا متفرّداً عن غيره من المجتمعات وشعبنا مغاير في مواقفه عن الشعوب الأخرى، ويجعلنا دوماً وأبداً مستعدين لاستقبال أفواج بشرية جديدة والتعاطي معها بصورة ليست فقط إنسانية بل عصرية وفريدة.
إن ثقافة احترام الآخر واحترام الاختلاف، قد أظهرت أفضل ما في الإمارات وشعبها. فكعادتها خلقت الإمارات من ثقافة الاختلاف دوافع للنجاح والتطور، وعوضاً من أن تكون نقطة ضعف أصبحت نقطة قوة. فقد تم الاستفادة منها في التطوّر المجتمعي والإداري، فأصبحت فرصة لتحسين أحوال المجتمع والدفع به إلى الأمام. وعوضاً من أن يتحول ذلك التنوّع الإثني إلى صراع وحقد وحروب أهلية ونزاعات مجتمعية تحول إلى فرص واعدة تزرع الأمل في أرضنا، وتدفع مجتمعنا إلى السير قدماً في بيئة يسودها الاحترام والواقعية والنضج المجتمعي. وأصبحت ثقافة الاختلاف وتقبل الآخر ممارسة يومية وأسلوباً مجتمعياً محصّناً بأطر قانونية تضمن للجميع المساواة والعدالة الاجتماعية.
إن الإمارات تميّزت ليس فقط بتفرّد نظمها الإدارية، ولكن أيضاً بتفرّد قيمها المجتمعية التي استقتها من ثقافتها الاجتماعية الموغلة في القدم. وبينما تعاني الكثير من المجتمعات العديد من المشكلات جرّاء الانتقال إلى الحداثة والعولمة فإن معاناة الإمارات هي الأقل، كونها قد حملت معها ضمن ثقافتها الاجتماعية العديد من الحلول لمشكلات الحداثة ومفرداتها. بالإضافة إلى ذلك، فإن الإصرار على التغلّب على التحديات وتحويلها إلى فرص هي خاصية موجودة في عمق الثقافة الإماراتية المتوارثة أباً عن جد.
لقد خلقت الإمارات من ثقافة الاختلاف والتنوّع أنموذجاً اجتماعياً فريداً على مستوى العالم، واستغلت نقاط الضعف لتجعلها قوة جبارة تدفع بالمجتمع إلى الأمام. ووراء كل ذلك التغيّر تقف قيادة حكيمة آمنت بأن مصير الإمارات ليس فقط في تطوّر نظمها الاجتماعية وتبلورها لكي تواكب التنمية الحديثة، ولكن أيضاً في تطور كافة النظم والقوانين والتشريعات المعمول بها حتى تتم المواءمة بين الجوانب كافة.
*جامعة الإمارات