لا ريب في أنّ لدى غالبية وكالات الاستخبارات والأجهزة الأمنية في العالم دوائر مختصة بمكافحة التطرّف والتشدّد والإرهاب.
ولم يكن ذلك ثمرة لأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، بل إنّ تهديد الحضارة الإنسانية سابق لذلك الحدث الزلزالي المريع.
وفي سبيل محاربة التطرّف والإرهاب خُصّصت ميزانيات فلكية، وصُرفت أموال، وزُهقت أرواح، وصار العالم مصاباً بفوبيا الخوف والتهديد المتواصل من العدو والصديق على حد سواء. الحال ما انفكّ على حاله، بل يتفاقم على نحو فظيع ومؤذن باستنزاف الكثير من مقدّرات الدول وهنائها وراحة بالها، وأنّى للبال أن يستريح ما دامت الإقامةُ اضطراريةً بجوار البراكين؟
ويكفي المرء أن يلقي نظرة على بقعة واحدة من المناطق المتفجّرة في العالم، وأعني بها أفغانستان التي بلغت كلفة الوجود العسكري الذي تقوده الولايات المتحدة فيها، لمكافحة الإرهاب، أكثر من تريليون دولار، وعشرات آلاف الضحايا.
وعندما قرأنا، مطلع الشهر الجاري، تصريحات رئيس الأركان العامة في المملكة المتحدة، الجنرال السير مارك كارلتون سميث، في مؤتمر عن «الحرب البرية» كنا نعتقد أنّ الجنود سيعودون إلى الثكنات، لأنّ الحروب قد وضعت أوزارها، وأنّ عهداً من القوة الناعمة سوف يسري في عروق العلاقات بين الخصوم. لكنّ الأمر مخيّب للآمال:
لن تتوقف الحروب، بل سيتغيّر شكلها، وستصبح أكثر ضراوة، وأشد تدميراً، وأقل كلفة من الناحية البشرية للطرف المُهاجم.
الجنرال العتيد قال، كما نقلت «بي بي سي» إنّ جيش اليوم سيكون «أكثر ترابطاً، وأكثر سرعة وأسرع في الانتشار، وأكثر ترابطاً رقمياً، الجندي سيكون متصلاً بالأقمار الاصطناعية، وأكثر تركيزاً على قوات العمليات الخاصة». وهذا يعني أنّ قلة الجنود على الأرض تعني حتماً اعتماداً أكبر على التكنولوجيا الرقمية المتطوّرة، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي.
هذا يعني أيضاً أنّ اللجوء للقوة الخشنة ما زال مسيطراً على العقل الاستراتيجي العسكري، الذي لا يضيره لو أنفقت تريليونات أخرى في سبيل إلحاق أكبر أذى بالجماعات الإرهابية، لاعتقاد يشوبه الكثير من الشك، بأنّ الحرب العسكرية هي السبيل الوحيد لاستئصال الإرهاب، مع أنّ الأخير فكرة شريرة، ولا يمكن اقتلاع الشر بالطائرات المسيّرة ولا بالصواريخ الذكية ولا بالروبوتات التي تتغذى على آخر منجزات الذكاء الاصطناعي.
الدرب إلى محاربة الإرهاب يبدأ بالبحث عن منابعه: التهميش، الفقر، الاستعمار بأشكاله القديمة والحداثوية، النزعة الإمبريالية لقهر الشعوب، ونهب خيراتها، والتعامل معها كخزّان للموارد والثروات، وكساحة خلفية لإنجاب الاستبداد ورعايته وتخصيبه.
تريليونات الدولارات التي صُرفت وستصرف تكفي لحل مشكلات العالم (المصدّر) للإرهاب. أين الحديث عن التنمية، والتمكين، والاستقلال، والعدالة، والمساواة، وتوقير الكرامة الإنسانية؟ الإقصاء، واستمرار التعامل بمنطق الشمال والجنوب، سيفرّخ الكثير من الانتحاريين الذين ليس لديهم ما يخسرونه. فماذا أعددنا كيلا يصبح العالم جزيرة من المرفّهين التي تحيط بها أمواج هادرة من الجياع والمحرومين وفاقدي اليقين؟
لقد قالها حكيم أدرك بنباهته أنّ الحلول الجذرية هي ما يصنع الفرق: «لا تعطني سمكة، ولكن علّمني كيف أصطاد». ثم جاء من بعده من زاد: «لا تعطني سمكة، ولا تعلّمني الصيد، بل علّمني كيف أصنع السنّارة». وأنا أضيف: «لا تعطني سمكة، ولا تعلّمني كيف أصطاد، أو كيف أصنع السنّارة، بل حرّر إرادتي، وكفّ عن نهب روحي ومواردي، وأنا سأتكفل بالباقي».
القوة الناعمة لم تأخذ حقها، ولم يُصغِ إليها، بعمقٍ، المخططون الاستراتيجيون الذين يتصرّفون بغطرسة واستعلاء وانفصال عن الواقع، معتقدين أنّ قوة التدمير تحقق الانتصارات. كلا يا سادتي، أنتم دمرتم المبنى، ولم تدمروا المعنى الذي سينهض من تحت الأنقاض. ألا أذكّركم بما قاله أرسطو: «الخوفُ ألمٌ نابع من توقع الشرّ»؟
*أستاذ الإعلام في الجامعة الأمريكية بدبي