ربما من حقّ الذين ذرفوا مشاعر الحنين على الأوطان أن يستفيقوا من رقادهم مذعورين: هل كانت الرحلة تستحقّ كلّ هذا العناء؟

ومن حقّ الشهداء الذين ينهضون من النوم، منهكين، أن يتحسسوا دمهم: هل ما زال ساخناً؟ هل الرايات ما انفكّت تخفق بالنشيد، وتتذكّر السواعدَ التي رفعَتها أعلى التلّ؟

هل الأوطان ما زالت هي ذاتها الأوطان التي ألهمت الأدباء، وأصابت الشعوب بقشعريرة المجد وخيلاء الفخر، وأحيت الهويات، وقُدحت من نارها الحروبُ والهذيان؟

وإن شاء امرؤ أن يعرّف الأوطان، فهل يكتفي بذكر أنها جغرافيا وحدود محروسة بالأسلاك الشائكة، أم أنّ الأمر أشدُّ تعقيداً، ويتعدّى هذا التعريف المدرسي المسطّح؟

ولو أنّ رجلاً تقدّم وهتف أنه يفدي الوطن بكل ما يملكه، وأنه مستعد أن يهبه روحه ودمه، فعلينا أن نصدّقه. ولكن علينا أيضاً أن نسأل: ماذا قدّمت لنا الأوطان؟

لا يتعيّن لأحد أن يكون «سفسطائياً»، ويُهدر طاقة السؤال الأساسية التي تتوخّى الحقائق، لا الشعارات. سأعطيك الدم والضرائب، وسأدافع عنك بكل ما أملك كي تبقى سيّداً، حرّاً، منيعاً، عزيزاً، أبيّاً، شامخاً.. ولكن كيف لكائن لا يحوز من الصفات السابقة شيئاً أن يعطي؟ إنه فاقدٌ كلَّ شيء، ومهدّد في رزقه ومستقبله، وغيرُ آمن على بيته وأهله، ولا يملك ترف أن يحلم بالغد، أو أن يخطط للأسبوع المقبل؟

الأمر لا يتعلق بكونك متفائلاً أو متشائماً، أو بكونك وطنياً أو منشقاً. ربما تعزّي النفس قليلاً بالقصائد والحِكم المأثورة: «بلادي وإن جارت عليّ عزيزة، وأهلي وإن ضنّوا عليّ كرام». سيكون ذلك لائقاً لعام أو عامين أو أكثر قليلاً. أما أن تقضي العمر كله وأنت تجهش في الحنين المرّ، فتلك مفارقة للعقل، وتدمير للكينونة. الفقر كافر، والقحط لا يطعم الأمعاء الجائعة، ولا يطفئ نار الديون.

دعنا نقرّب المسافة، ولا نغرق في نار التجريد: بطولة اليورو 2020 لكرة القدم، الجارية منافساتها، كشفت صورتين كثيفتي الدلالة، إذ ترشحت للتصفيات دول «مستقلة» كانت قبل سنوات منضوية في إطار دول كبرى. فمثلاً، ثمة روسيا وأوكرانيا اللتان كانتا تصدحان بالنشيد الأممي للاتحاد السوفييتي. وهناك أيضاً تشيكيا وسلوفاكيا اللتان ولدتا من رحم انقسام تشيكوسلوفاكيا، فكوّنتا وطنيْن ورايتين ونشيدين وحدوداً مُكهربة ومفخّخة. إنها الجغرافيا السائلة، إذاً، تفرض شروطها الصلبة، وتقدّم تصورها للوطن الراهن الذي ربما يسيل مستقبلاً فيصنع حدوداً وكيانات سياسية جديدة لها راية ونشيد وبرلمان يشدّد على الوحدة الوطنية!

الصورة الأخرى، المستقاة من منافسات اليورو، تتصل بالنشيد، باعتباره الوعاء النفسي والوجداني للوعي الذاتي في لحظة ما، إذ شاهدنا منتخبات أوروبية تحتفي، قبيل المباراة، بضراوة، وهي تضع يدها على الشعار، مع أنّ الهاتفين منحدرون من جذور متعددة (من الأصول والمنابت كافة!)، ولكنهم منصهرون في التعبير عن وطنية متوثّبة، حارّة، نزّاعة إلى التنافس والظفر، ويمكن رؤية المشهد ذاته في المدرجات. فما الذي آلف بين كل هؤلاء ووحّدهم في هُوية سياسية علت عما سواها؟

أوما زلت تسألني عن الوطن، وتوصيني أن أحمل لك حفنة من ترابه؟

لا بأس بقليل من النوستالجيا، فهي مرهم يعالج الخذلان، ويداوي تشققات الروح، ويترفّق بالذات الجريحة، وربما يسعفها في غناء موّال حزين. ولكنّ هذا الموّال، في الشروط الطبيعية، يأتي في مرتبة لاحقة، كما يقول «هرم ماسلو». الموّال ثمرة الطمأنينة الانفعالية التي تسبقها، الاحتياجات الفيزيولوجية كالتنفس والطعام والشراب والمأوى، ثم تأتي بعد ذلك احتياجات السلامة والأمن والأمان، مثل: الصحة، والتوظيف، والتملّك، والاستقرار الأسري والاجتماعي. وبعد هذا تتبلور احتياجات الانتماء والحب: الصداقة، المودة، والعلاقات الاجتماعية، ثم تأتي الحاجة إلى التقدير الذاتي والإحساس بالحرية والثقة وبناء الإنجازات.

وفي رأس الهرم، يتجلّى تحقيق الذات، والابتكار والإبداع، والرغبة في التنافسية والتميّز والأفضلية، وتقبّل الحقائق والنقد، والمساهمة في حل المشكلات، والإجابة عن الأسئلة الملحّة بكل وضوح وألمعية. في هذه المرحلة، بالذات، يأتي موعد الموّال، يا صديقي، يا سجينَ الجغرافيا.