الهلع يقتل أكثرَ من المرض، وفي المقابل تحقق قوة الوهم ما تعجز عنه المشافي والمختبرات. لكننا لا نرضى العيش تحت سطوة الهلع، ولا نقبل للوهم أن يحرّك مركبة الحياة.

تعالوا، إذاً، إلى حلّ تصالحي توافقي لا يموت فيه الذئب، ولا تفنى الغنم، كما يقول مثل عربي شائع. وبما أنّ آخر العلاج الكيّ، فليكن ذلك من خلال تقبّل وجود فيروس كوفيد 19، والتعايش معه، كما لو أنه إنفلونرا. فالإنفلونزا الموسمية أضحى الناس، بخبرتهم، قادرين على السيطرة عليها، ومعرفة مواقيتها وأعراضها وأخذ العلاجات اللازمة لها. وهذا ليس تقليلاً من فداحة الإنفلونزا التي تقتل كلّ عام عشرات الآلاف من البشر حول العالم.

الصراع مع الفيروسات لا نهاية له، وكما أنّ الإنفلونزا المتحوّرة جينياً، التي عُرفت بـ«الإنفلونزا الإسبانية» قد قتلت، ما بين 40 إلى 50 مليون إنسان في غضون عامي 1918 و1920، فإنّ كوفيد 19، الذي خطف أحبابنا وأصدقاءنا، يطالعنا كلّ حين بتحوّرات، كان أجدَّها وأشدَّها «المتحور دلتا» الذي قيل إنه يقاوم المطاعيم التي حصل عليها كثيرون، ما يعني مواصلة إنتاج لقاحات أخرى تعزيزية لملاحقة الفيروس، في مطاردة صعبة وذات آثار نفسية واقتصادية مرهقة لم يعد في الوسع تحمّلها أكثر.

إذاً، ما العمل؟ هل يُترك الناس نهباً للفيروس، هل نلغي، كدول، إجراءات الحجْر الصحي، ونفتح الأبواب تدريجياً لعودة الحياة، ودوران عجلات المال والأعمال، فنقوّي المناعة النفسية للاقتصاد والمجتمع، وتلك مناعة لا غنى عنها، وهي ليست أمراً عديم النفع على المستويات كافة؟

لنبسّط الأمر قليلاً: الإنسان المختبئ وراء الذعر والمخاوف من الفيروس، ستتدنى، بلا ريب، مناعته الجسدية والنفسية. إنه أكثر عرضة لليأس. وتلك طامة كبرى. الجسد في هذه اللحظة لا يفرز إلا الطاقة السلبية الهدّامة المظلمة التي تسقطها أولُ لحظة ارتطام بالعالم الخارجي.

والاقتصاد يتغذى على همّة الناس وعزمهم. إن هم حصدوا غلالاً من خلال أعمالهم ارتقت روحهم النفسية، وإن هم لفّعتهم مشاعر الإحباط والبطالة والخسارة، فإنّ أية «عطسة» ستطيح أجسادهم وآمالهم في الوقت ذاته.

لا بد، في ضوء ذلك، من المجابهة (وقليل من المخاطرة)، ورفع المعنويات الجمعية لدى الناس، وتحفيز قواهم الداخلية على تقبّل هذا الفيروس، وإدراك أنّ المعركة معه طويلة وشاقة، وتحتاج إلى نَفَس عميق، من دون التخلي، بكل تأكيد، عن إلزامية التطعيم والإجراءات الصارمة في ارتداء الكمامة، أنّى كان ذلك ضرورياً، وفي التزام التباعد الاجتماعي، وفي الفحص الدوري في حال الاشتباه بالإصابة.

الناس، في تقديري، ملّت وتكبّدت خسائر نفسية ومالية لا يمكن الاستمرار فيها. كما أنّ الحياة مُلك أصحابها. لا أعتقد أنّ أحداً يمكن أن يضحّي بصحته أو يستهتر في الحفاظ عليها. وبالتالي لندع هذا الأمر لوعي الناس، فهم أدرى بما يحميهم ويحقق لهم السلامة والأمان.

ستقول قائلات وقائلون إنّ هذا الانفتاح على هذا النحو إقدامٌ مبرم على فعل انتحار، لكنّ الأمر ليس كذلك أبداً، ودليلي خُطة علماء وخبراء في سنغافورة، اقترحوا، كما نقلت «سي إن إن»، أولاً إلغاء عمليات الإغلاق وتتبع الاتصال الجماعي، ثانياً السماح بالعودة إلى السفر الخالي من الحجْر الصحي، ثالثاً استئناف التجمعات الكبيرة، رابعاً التوقف عن حساب حالات الإصابة اليومية، خامساً اقتراح نموذج التعايش مع الفيروس كأنه إنفلونزا، وأخيراً حضّ الناس على «المسؤولية الاجتماعية».

وأكد الخطةَ السنغافورية المقترحة، قرارُ الحكومة البريطانية رفعَ آخر القيود المعتمدة للسيطرة على الجائحة، في التاسع عشر من الشهر الجاري. وسرّني كثيراً أنّ مباريات التصفيات النهائية لمسابقة اليورو قد شهدت حضوراً جماهيرياً في استاد ويمبلي بلندن لم يسبق له مثيل منذ بداية الجائحة. لقد كانت فرحة الناس مضاعفة، لا لأنّ منتخبهم أحرز هدفاً، بل لأنهم أحرزوا أهدافاً في مرمى خصم الحياة اللدود، وسيواصلون.