يقال دائماً الآن إن العالم المعاصر تحكمه ثورتان: الأولى ثورة المعلومات؛ والثانية ثورة الجينات. وإذا كانت الأولى قامت على الكمبيوتر وقدراته الحسابية الفائقة، ونقل المعلومات والمعرفة بوجه عام؛ فإن الثانية أدخلت البشرية في عالم عميق جديد من تغيير وتعديل الجينات للتعامل مع أمراض مستعصية. أزمة الكورونا وضعت البشرية في اختبار المواجهة مع فيروس قادر على التحول المستمر، وخبيث في القدرة على الانتشار بين البشر.

ومن ناحية فإن ثورة المعلومات أتاحت التعرف المستمر والدؤوب على الحالة المرضية في دول العالم ومدى النجاح الكوني في التعامل مع «الجائحة»؛ فإنه من ناحية أخرى بات ممكناً من خلال ثورة الجينات التعرف على الفيروس ومراحله وإنتاج لقاحات تفاوتت قدراتها وضعت الأساس الحالي لحصار الوباء والتعامل معه.

في التاسع من مايو الماضي نشرت مجلة «تايم» الأمريكية موضوعاً مهماً بعنوان «البعوض المعدل جينياً جاء إلى الولايات المتحدة»، وتحكي عن محاولة لاستخدام البعوض المتحور لمكافحة البعوض كلية. البعوضة المذكورة والمستخدمة في البحث تسمى، «البعوضة المزعجة المصرية» ويبدو أن الاسم جاء من رسوم عن البعوض جاءت على حائط المعابد الفرعونية ومن ثم اكتسبت الاسم. الفكرة تقوم على الجهود العلمية التي قامت بها شركة بريطانية «أكسيتيك أو Oxitec» ومحتواها هو المعالجة الجينية لبضعة آلاف من البعوض المزعج الذي ينتمي إلى هذه السلالة، ثم يجري إطلاقها في مناطق يوجد فيها البعوض بكثرة، وحينما يقوم بالمعاشرة، فإن قدرات التكاثر لدى البعوض تتلاشى ومن ثم تنقرض تدريجياً.

قالت المجلة تم تعديل البعوض وراثياً ليشمل جيناً «محدوداً ذاتياً» ينتج بروتيناً قاتلاً، ثم يترك بيض البعوض ليفقس في البرية. يقتل الجين الإناث غير الناضجة البويضات - وهي الوحيدة التي تلدغ - ولكن الذكور تصل إلى مرحلة النضج، وتتزاوج مع الإناث البرية، وتنقل الجين المعيب. ثم تموت ذريتها الإناث، مما يتسبب في انهيار عدد سكان مصاصي الدماء.

القصة هكذا تبدو مفيدة للإنسان الذي يقلقه ويسبب أرقه «زن» البعوض الذي من جانب آخر يتسبب في مقتل مليون إنسان كل عام نتيجة نقله لفيروسات وميكروبات مثل الملاريا. في غضون ذلك، أكدت جائحة «كوفيد 19» الضعف البشري أمام تفشي الأمراض المعدية التي ينتشر الكثير منها عن طريق البعوض.

هنا فإن جهد المعالجة الوراثية للبعوض تسعى إلى تطوير وتوسيع نطاق التقنيات الجديدة التي ستسمح في الأساس للجنس البشري بالاستمرار في الوجود على هذا الكوكب.

أو كما ذكر مراراً وتكراراً أن «الآفات الحشرية هي واحدة من أهم التهديدات لذلك». المعضلة في ذلك كله هي أن المشاعر المضادة للكائنات المعدلة وراثياً سائدة في جميع أنحاء الولايات المتحدة - ما يقرب من نصف البالغين الأمريكيين لا يثقون في الأطعمة المعدلة وراثياً، على سبيل المثال – وبقية العالم لا يشعر بسعادة غامرة أن يكونوا في مركز تجربة وراثية ضخمة.

المعادلة هكذا تبدو ناقصة أولاً من ناحية الثقة في مؤسسات البحث العلمي التي يشاع عنها دائماً تعمل لصالح شركات الدواء العالمية التي تتسبب في المرض ثم بعد ذلك تقدم العلاج له، وهو ما يجعلها تكسب مرة من التشخيص ومرة أخرى من السعي إلى الشفاء. المسألة هنا أن الظن ذاته كثيراً ما يقال عن شركات السلاح التي تخلق أو تشعل النزاعات الدولية ثم بعد ذلك تقدم السلاح للمتنازعين للتحارب.

ولكن المسألة ليست فقط في أزمات الثقة، وإنما أحياناً في العلم ذاته الذي يعطي للشركات والمؤسسات الطبية أو العسكرية فائضاً من عدم الثقة، مضافاً إليها توليد جيوش كاملة من المتمردين ضد النظام العام.

مرة أخرى فإن أزمة «كوفيد 19» أضاءت النور على وجود الكثير من البشر الرافضين للعلاج واللقاح أو القبول حتى بالمعالجة مما أدى إلى انتشار المرض وبطء عملية حصاره، وفي حالات كاملة فإن مدناً وولايات كاملة في الولايات المتحدة لا تزال أسيرة للمرض والفيروس، خصوصاً مع تصاعد عمليات تحولات جيناته.

الأمر هنا يحتاج إلى معالجة في الوعي والتفكير، فقبل وبعد كل شيء فإن الإنسان نجح خلال القرنين الماضيين في مضاعفة سن الإنسان المتوقع عند الميلاد نتيجة الابتكارات السابقة وحالياً المعالجات الجينية. من المؤكد فإنه في عهود سابقة كان الإنسان المصري القديم سوف يتمنى أن يحصل على ما نجح الإنسان الحالي في الحصول عليه.