الناس تنتصر لدينها وتدافع عنه، إنه أحد أبرز المتاريس الروحيّة التي تحتمي بها، هكذا فعل الغاضبون الذين ساءهم تقديم السيد المسيح، عليه السلام، في الفيلم البرازيلي «الإغواء الأول للمسيح» بصورة مبتذلة، وهكذا فعلوا حينما قام رسام كاريكاتير دنماركي بالتهكّم على الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم.

قيل كثيراً عن ثالوث: الدين، السياسة، الجنس. وقد يتساهل بعضهم في ضلعيْ المثلث الثاني والثالث، ولكنّ الأول لا يحتمل ذلك. الدين، خصوصاً، لدى الشعوب الفقيرة أو المستضعَفة، أو ذات المستوى الاقتصادي والثقافي والتعليمي المتواضع، هو الملاذ الأخير.

هذا لا يعني أنّ الدين مغلق لا يتقبّل البحث والدرس والتأويل، فلو كان الأمر كذلك لما ظلّ باب الاجتهاد مفتوحاً في الإسلام، وقد حثّ القرآن الكريم، في أكثر من موضع، على التدبّر والتعقّل والتفكّر والتأمّل، وكلها من أعمال النظر العقلي.

وفي الأديان السماوية كافة كان التأويل رافعة أساسية لفهم ما استغلق من النصوص الدينية، ومضى المشتغلون في التأويل بالاستعانة بعلوم اللغة والفلسفة والتحليل والنقد التاريخي، حتى تمكّنوا من إرساء علم التأويل أو «الهرمنيوطيقا».

وفي الإسلام برع كثير من الفقهاء والمفسّرين والفرق الفكرية في تقديم تصوّرات خلاقة أثرت النص الديني، وعمّقت معانيه، وشرّعت أمداءه، فنشأ «علم الكلام» الذي خاض، عبر آليات الاستدلال العقلي، في كل الأسئلة التي يعتبرها بعض المتعصّبين، الآن، كفراً وإلحاداً وزندقة.

واستمرت حركة التأويل العقلي للنص الديني حتى زمن الفيلسوف الأندلسي ابن رشد، الذي أكد أن العقل لا يتعارض أبداً مع الإيمان، وبالتالي إذا كان ظاهر الشرع مخالفاً لبرهان العقل فلا بد من تأويله.

النص الديني أُعطي للبشر كي يتأوّلوه ويتدبّروا في دلالاته ومقاصده. هذا النصّ ثابت مطلق في منطوقه، لكنه نسبيّ متغيّر في معناه، ما يعني وعي النص أولاً، ثم خضوعه لمجاراة تحوّل الأزمنة، وتقلّب الأمكنة، وهذا ما عمّق الحاجة إلى تطوير فهم السياق التاريخي للنص الديني، فما كان صالحاً قبل ألفي عام ربما لا يكون، بحذافيره وشكله وتفاصيله، متوافقاً مع تطوّر العصور، والأمثلة على ذلك كثيرة ومعروفة.

هذه التحوّلات في فهم النص الديني ضخّت في عروقه دماء الديمومة والحيوية، بحيث يكون الدين يُسراً لا عسراً، وبحيث لا تتصادم نصوص الشريعة مع منظومة حقوق الإنسان، وكذلك حقوق الكائنات الأخرى التي حضّ الدين على الرفق بها.

طفولتي مليئة بمشاهد الخراف المذبوحة التي يجري جزّ أعناقها، على الملأ، من الوريد إلى الوريد كجزء من شعائر عيد الأضحى. لذا صرت أمنع أبنائي، والأطفال عموماً، من رؤية هذا المشهد الذي يخزّن في الذاكرة صورة فيها مقدار عالٍ من العنف، لا سيما حينما يلطّخ بعضهم كفّه بالدم ويطبعها على الحيطان، لذا صارت البلديات تراقب ذلك وتمنعه، وليس في ذلك طعناً بهذه الشعيرة المقدّسة. كلّ ما في الأمر أن يتم الذبح بطرق عصرية، وفي أماكن مخصصة لذلك، بإشراف خبراء، وهذا يحمي البيئة ويحفظ الصحة، ولا يعذّب الحيوانات، حتى لو خلقها الله للطعام، وحتى لو كان جزء من لحمها يوزّع على الفقراء والمحتاجين.

مناقشة هذه التفاصيل ضروري لإعلاء شأن الأديان، ويتعيّن تقبّل استجابة الشريعة لتحديات الحداثة، ولا يتعيّن لأحد أو حزب أو جهة أن يحتكر فهم الدين، ويزعم النطق بلسان السماء. لقد بعث الله الإنسان ليعمّر الأرض، وهذا لا يتم إلا بالاستجابة لسنن التطوّر والعصرنة التي لا تتعارض مع القيم الإيمانية الراسخة للدين.