يوماً بعد آخر تزداد رقعة اقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي في أسواق الأعمال اتساعاً في أنحاء العالم، ورغم ذلك إلا أن ثمة هوّة بين تلك الأسواق، وما تتطلبه من مواكبة وبين مخرجات المؤسسات التعليمية بأنواعها.

لا يختلف الحال هذا عن حال الأسواق ذاتها في السابق مع تخصص الهندسة المالية، والهندسة الثقافية، وغيرها من التخصصات التي لم تلقَ حظها في مناهج التعليم وأقسام الكليات في جملة ما يستحدث من تخصّصات بأنحاء العالم.

ولو قارنا بين متطلّبات أسواق العمل العالمي اليوم، والتي يتوغل فيها عميقاً مجال اقتصاد المعرفة وأدواته التكنولوجية وأهمها صناعات الذكاء الاصطناعي، وبين المؤسسات التعليمية وتخصّصاتها، لوجدنا ثمة فجوة كبيرة، أو غياباً أكبر، مواكباً لهذا الحضور الذي تتمتع به أدوات اقتصاد المعرفة، تكنولوجيا وذكاء اصطناعي، في أسواق العمل، وبين ما يتعلق به في سياق التخصصات التعليمية، فلا يوجد حتى هذه اللحظة، على الصعيد العالمي، في المؤسسات التعليمية توجّه جاد مستحدث يتعلق بمتطلبات تلك الأسواق، وما تفرضه تحولات النظام المعرفي عموماً، إلا ما ندر.

وتؤكد مخرجات الممارسة التعليمية في معظم المؤسسات الأكاديمية في أغلب دول العالم العربي أنها تنتمي إلى نظام سادت تقاليده قبل عشرين عاماً، أي أن مخرجاتها لا تنتمي للحاضر، وغائبة عن مواكبة المشهد العالمي وتحوّلاته الجذرية.

بعض الدول العربية فقط وأقول بعض تمييزاً لها، مثل دولة الإمارات العربية المتحدة، تعمل على قدمٍ وساق من أجل مواكبة متطلبات أسواق العمل من خلال التأثيث الجيد لتفاصيل تلك المتطلبات داخل مؤسساتها الأكاديمية، فاستحدثت أقساماً وكليات تنتمي إلى الحاضر وتؤكد على الانتماء إليه وتؤكد أيضاً جاهزيتها الكاملة للذهاب إلى المستقبل الذي تتطلع إليه طموحاتها وجهودها المبذولة.

وبالإضافة إلى سلوك الأتمتة الذي سيخلق بطالة في أسواق العمل لا حصر لها، نجد أن عدم مواكبة المؤسسات التعليمية وعجزها عن استيعاب متطلبات أسواق اقتصاد المعرفة، في مناهجها وتخصصات كلياتها، سيعمل على مضاعفة تلك الأعباء التي ستخلقها الأتمتة، ويزيد من فاعلية البطالة أكثر فأكثر، بل وسيؤكد وصول الدولة، أي دولة، إلى حالة الفشل والعجز أمام التزاماتها المفروضة تجاه المجتمع وتجاه مواطنيها.

وإذا استمر غياب المؤسسات التعليمية عن المواكبة لمتطلبات أسواق العمل، فإن ذلك سيعمل على تراكم مخيف لحالة اللاجدوى في مخرجاتها عموماً، وهنا لا بد من التنبه إلى أن التعجيل في بناء سدود معرفية تنتمي للحاضر هو السبيل الأكثر فاعلية للوقاية من تبعات الأتمتة والتخفيف من وطأتها، وهو صمام الأمان بالنسبة للأجيال القادمة، وإلا فإن ثمة حضارات قد تختفي من الوجود بإنسانها وثقافاتها وموروثها الحضاري.

إن ما تحتاجه المؤسسات الأكاديمية العربية اليوم هو التحول الكلي نحو النظام المعرفي، وهندسة مناهجها بما يتوافق مع الحاضر والمستقبل أيضاً، وهذا لن يتم إلا باستحداث أقسام جديدة للتخصصات الحديثة في كلياتها وجامعاتها واستقدام الكفاءات المتخصصة لتقوم بمهمة تعليم الطلاب وتحضيرهم جيداً لاحتياجات أسواق العمل، وما يفرضه النظام المعرفي على العالم بأسره من تحولات نحو اتجاهاته وأدواته. وللحديث بقية.

*خبيرة اقتصاد معرفي