عندما يكون لديك مقال شهري لصحيفة فلا بد أن يكون لما يقال علاقة ما مع الشهر الذي وقع فيه الحديث. وأغسطس هو أحد شهور السنة الحارة دائماً، لكنه هذا العام أكثر حرارة من كل ما سبق حتى قامت الحرائق في غابات مناطق الثلج في شمال غرب ألاسكا الأمريكية، وفي الأسفل منها في أحراش كاليفورنيا استمرت لأسابيع، ولا أحد يعرف حقيقة لماذا تؤدي السخونة أحياناً إلى حريق، وفي أوقات أخرى إلى فيضانات حدثت في أوروبا حتى اشتكى الألمان من الغرق.
كل المعلّقين يؤكدون أن هناك علاقة ما جارية بين الخلل الجاري في كوكب الأرض المسمى «الاحتباس الحراري»، وتلك الظواهر المخيفة التي كانت حتى وقت ليس بعيداً مجرد عجائب يجري الحديث عنها في الكتب المقدسة، ولكن بغض النظر عن حالة الطقس العالمية، فإن هناك علاقة وثيقة بين الصيف والحر و«الآيس كريم» الذي صدق أو لا تصدق أن اختراعه كان أساسياً لابتكار ما هو أهم، وهو جهاز التكييف الذي جعل الإنسان يتحكم في الطقس، وفوق ذلك يحصل على أنواع أكثر جودة من ذلك الطعام اللذيذ المرطب للحلق والوجدان. كتابة تاريخ «الآيس كريم» سوف تشهد أن العام الحالي شهد ظاهرة غير مسبوقة، وهي أنه من الممكن أن يكون موضوعاً سياسياً ودبلوماسياً أيضاً، وله علاقة بالصراع العربي الإسرائيلي.
نقطة البداية في الموضوع هو أن شركة الآيس كريم الأمريكية الشهيرة «بين وجيري أو Ben & Jerry»، وهي أسماء تنتمي إلى عالم «الميكي ماوس» الشهيرة، كانت تصدّر الآيس كريم إلي إسرائيل والمناطق الفلسطينية المحتلة.. الشركة يملكها يهود اعتادوا دعم إسرائيل مالياً ومعنوياً لسنوات طويلة، وفي العموم فقد كانت تلقى ترحاباً من مستهلكيها، خاصة في أيام حارة.
وإلى هنا تبدو المسألة بسيطة واستهلاكية، ولا يوجد من يظن أن فيها ما يسلي بالضرورة إلا في تلك اللحظات السحرية للتعامل بالمذاق مع تلك الخلطة من الثلج والكريم، وبعد ذلك لن يبقى إلا الحسرة حتى يأتي وقت آخر للاستمتاع بتلك اللحظة مرة أخرى.
ولكن اللحظة أخذت في التعقيد عندما قررت الشركة وقف تصدير «بين وجيري» إلى المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية. دخلت الشركة فجأة إلى عش الدبابير السياسية والاستراتيجية، فمن وجهة النظر الإسرائيلية التقليدية هي أنها لا تسمح لأحد، خاصة لو كان يعمل في مجال «الآيس كريم» غير الضروري للحياة البشرية، بأن يعرّض المستوطنين وأطفالهم للعقاب أو ما يتخيله الإسرائيليون عقاباً أو مقاطعة، ولكن الدنيا انقلبت رأساً على عقب حينما بدأت الحكومة الإسرائيلية الجديدة في اتهام الشركة بمعاداة السامية، وهو الأمر الذي كان مدهشاً نتيجة التاريخ الطويل للشركة في ترطيب الحلوق في إسرائيل وبقية العالم.
جرت محاكمة حاكم نيويورك لأنه ترك إجراء الشركة يمر دون عقاب أو مقاطعة مضادة، ولاية فلوريدا أعلنت المقاطعة الكاملة للشركة، وداخل إسرائيل، وحتى الحكومة الإسرائيلية ذاتها جرى انقسام من نوع آخر، فالمشاركون في الائتلاف الحكومي كان منهم في الوسط واليسار من يتفهم موقف الشركة التاريخي، خاصة أن القضية جاءت بعد حرب غزة الرابعة، مما يمكن أن يؤثر سلبياً على السمعة الإسرائيلية، ولكن رئيس الحكومة والأحزاب القريبة منه وجدت في الأمر فرصة لتلقين العالم درساً في أنه لا ينبغي لأحد أن يتدخل في العلاقات الخاصة بين إسرائيل والمناطق التي تحتلها أو تستولي عليها.
مثل هذه التصرفات تفقد الدولة الإسرائيلية الكثير، بل إنها بالفعل قد تؤدي إلى تقوية تيارات معادية للسامية اليهودية بالفعل، والتي ذاتها تعادي الساميين العرب من المسلمين والمسيحيين. وخلال الفترة القصيرة الماضية بات هناك لإسرائيل فرصة للتعامل السلمي والتعاوني مع ست دول عربية. المهم هو أن ما يتولد عن تلك التصرفات المضادة لشركة يهودية في الأصل لا يعود بعائد يقدر على إسرائيل ذاتها.
ربما يعطي بعضاً من حماقة القوة التي لا تقدر الفرص الضائعة، ولا تسمح لتيارات السلام أن تسود. وللعلم أن العالم يمكنه أن يستغني عن «الآيس كريم»، لكنه لا يستطيع الاستغناء عن السلام بالسماح بالاستيطان، ثم الغضب من رفض التعامل معه.