الذين تابعوا المشهد السياسي ووتيرة مجريات الأحداث التي تفجرت أعقاب ما يسمى «الربيع العربي» وخصوصاً في مصر، تملّكهم الإحباط وفقدان الثقة في القيادات التي جاءت بها رياح «الربيع العربي» في غفلة من الزمن، يضاف إلى ذلك الاستياء والقلق من مسلسل التصعيد الذي بدأ يجور ويستبد على رموز الممارسة السياسية والإعلاميين وأصحاب الرأي والفكر ورموز الفن، ما جعل الشارع يتولى تسيير دفة الحكم عبر التظاهرات والاحتجاجات أو سلطة الميليشيات المسلّحة، ذلك لأن الفجوة أخذت تتسع كل يوم بين الأمل والرجاء، ولعلها كما تبدو أمام العين أكثر اتساعاً بين شعوب بعض الدول وقياداتها..!
وبدا للجميع كأن يأس الشعوب العربية من الحاضر الماثل والمستقبل المبهم أيقظ في النفوس مبررات لإحياء ذكرى الماضي بكل تجلياته، فإذا بعبد الناصر «ينهض في ذكرى رحيله» بملمحه المميز وبقامته المديدة وصوته المؤثر وشخصيته الكاريزمية ليعيد للأذهان ملامح حلم الوطن العربي القديم!
ومع حضوره الاستثنائي والرمزي استفاقت ذكريات ذلك الزمن الجميل الذي مضى، ومن خلال الفراغ يتنادى من الآماد البعيدة عبد الحليم حافظ «نحن بنينا السد العالي». وها هي خمسة عقود مرت على وفاة الراحل المقيم جمال عبد الناصر الذي فجعت برحيله كل المدن العربية، إذ معه رحل الحلم العربي ولم الشمل، كأن الليلة كما البارحة، آلاف الناس صعقوا من هول الصدمة فخرجوا للشوارع مفجوعين ومأزومين لما سرى الخبر إلى أقاصي الدنيا.
والناس كلهم ما بين مصدق ومكذب، إن الزعيم ناصر لم يكن رئيساً لمصر بل زعيماً للأمة العربية.. وقد استطاع هذا الزعيم الفذ أن يحوّل الانقلاب العسكري لثورة عظيمة شهد لها التاريخ ودوّنها في سجلاته، وهو الذي أسس لبناء جيش مصر العظيم.
ولقد نعته وللمرة الأولى في تاريخها الأمانة العامة للأمم المتحدة بأنه أحد صنّاع التاريخ المعاصر. وقالت فيه أنديرا غاندي: «كان صديقاً حميماً لوالدي وهو مفجر الثورة العربية ومؤسس حركة عدم الانحياز مع أبي، كان زعيماً لم تصنعه الأحداث بل كان يصنعها كما وصفه أبي..».
أهرام الجيزة غشاها الحزن في مصر فإذا بها تبكي الرحيل المبكر وتستعيد ذكرى إنسان زعيم وقائد في قامة هرم.. أمس كانت الذكرى الـ 51 لرحيل المصري الأصيل الذي ولد من أحشاء «أم صابر» ليعيد للعمال والفلاحين حقوقهم المسلوبة وكرامتهم المنزوعة منذ عصور البطالمة والسلاجقة والمماليك وانتهاءً ببقايا مخلفات حملة نابليون انتهاءً بحكم الأتراك في عهد فاروق «ملك مصر والسودان».
عاش عبد الناصر وعايش أهم وأصعب حقب تاريخ الأمة العربية وهي تكافح لنيل حريتها من نير الحكم الأجنبي فوقف بضراوة إلى جانب أحمد بن بيللا مناصراً لثورة التحرير في الجزائر، كما وقف مع ثورة اليمن التي أنهت حكماً أبقى اليمن في كهوف العصور الوسطى، وكان شاهداً على استقلال السودان عام 1956.
وهو الذي حذّر عبد الكريم قاسم رئيس العراق آنذاك من مهاجمة الكويت في الستينيات، وقال له «لو فكرت في ذلك فسوف أتصدى لك»، وقاد حملة شعواء حتى آخر يوم في حياته ضد الظلم والاستبداد وضد الاستعمار فاجتمعت عليه ثلاث دول معاً!
وكانت فاجعة النكسة التي أصابت الأمة العربية كلها في مقتل، وبقي الجرح فاغر الفم، عندها رأى أن عليه أن يتنحى فإذا بجموع الشعب المصري تطالبه بالعدول عن الاستقالة، ذلك لأن النصر أو الهزيمة مسؤولية تضامنية، كان صوت المذيع جلال معوّض يتداعى من راديو القاهرة مردّداً خطاب الاستقالة «أيها الأخوة لقد قرّرت أن أتحمل وحدي مسؤولية الهزيمة. وخياري الذي أراه أمامي أن أتنحى ليقول الشعب كلمته»، ما زال هناك الكثير من يذكر صوت إذاعي يجهش.. وحياله وطن يبكي.. وأمة تنتحب وأرتال من البشر ساروا حفاة الأقدام.. بل قضوا الليلة بأكملها تحت منزل الزعيم في منشية البكري في مشهد لم تعرفه القاهرة إلا يوم رحيل الزعيم الذي رفع راية الأمة العربية.
قاد ناصر مسيرة «ارفع رأسك يا أخي العربي» ضد هيمنة الغرب على المصالح العربية.. عندما أمم قناة السويس وشيّد السد العالي.. ومضى بالمسيرة في الاتجاه الصحيح لبناء مجتمع الكفاية والعدل بعيداً عن المعسكرين الغربي والشرقي، بشّر ناصر بالفكر التقدمي المناهض للنظام الرأسمالي والمعادي للنظام الشيوعي، ولهذا سارع لتأسيس حركة عدم الانحياز مع جواهر لال نهرو وجوزيف تيتو كحركة «وسطية» تعبر عن المصالح الحقيقية للدول النامية... رحم الله ناصر. الراحل المقيم.. وطيّب الله ثراه.