قرن مضى على تأسيس العراق الحديث، عراق الثقافة والفن والإبداع وبلاد الرافدين، عراق السومريين والبابليين، والآشوريين، والأكاديين، وقبل كل هذا موطن إبراهيم أبو الأنبياء، وموطن ملحمة جلجامش، وحمورابي أبو القوانين والشرائع، وأرض السواد الخصبة، التي احتضنت الأديان باختلافها، وموطن برج بابل، والحدائق المعلقة.

العراق الذي أنجب الأئمة والفقهاء والمتصوفة، وقدم للعالم العربي مئات من الشعراء الكبار في عالم الثقافة والفكر واللغة.

بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية، والبصرة التي تكتب شهادة ميلاد كبار العقول، والموصل الحدباء جامعة الثقافة والفنون، نعم كل شبر في أرض العراق يملك مفاتيح الإبداع والحضارة، بلد غني بالثروات الطبيعية، نهران عظيمان «دجلة والفرات»، ومئات الجداول الصغيرة من المياه العذبة، وملايين الأفدنة الفريدة في خصوبتها، فضلاً عن ثرواته من المعادن والصحاري الغنية، وصولاً إلى ما تميز به من وجود النفط والغاز كثاني احتياطي في العالم.

أما الامتياز الأكبر فقد منحته له الجغرافيا، فالعراق يمثل قلباً استراتيجياً وبوابة رئيسية للعالم العربي نحو الشرق، وصولاً إلى قلب أقصى شرق آسيا.

الجغرافيا والتاريخ جاءا في صالح العراق، ليجعلا منه قوة جيوسياسية لا يمكن تجاهلها، إذا ما أضفنا شيئاً آخر إلى ذلك الثراء والحضور التاريخي والجغرافي، فقطعاً سيكون الشعب العراقي هو الرقم الصعب المهم في مسيرة هذا الوطن، فهذا الشعب على مر التاريخ كان صاحب كلمة وموقف، رفض- من قبل- الاستعمار وقاومه بضراوة وشدة، تخلص منه في أحلك الظروف، التي كان يمر بها العالم.

بحث عن الاستقلال في توقيت كان الصراع حامي الوطيس على تقسيم المنطقة، وتوريث النفوذ الاستعماري، الشعب العراقي ابن التجربة العريضة المتناغمة بين الثقافة والسياسة والإبداع، كانت له كلمة في الحفاظ على العراق بمفهومه الفطري، الذي صاغته الجغرافيا، وكتب عنه التاريخ.

المطبات كثيرة في عمر هذا الوطن، المنحنيات عديدة، التصدعات سجلتها بطولات العراقيين من زاخو أقصى الشمال، إلى البصرة أقصى الجنوب، شهد تحالفات ضده، لكنه أراد أن يظل صلباً، العراق يحظى بإجماع بين أبنائه متعددي ومتنوعي المشارب والثقافات، ففي التوقيتات الصعبة يصطف الجميع خلف كلمة واحدة اسمها «العراق».

قرن مضى ولا يزال العراق تحاصره تحديات وتعقيدات متنوعة، الدروس كثيرة، لكن الذي يجب أن يستخلصه الشعب العراقي من هذا المشوار الطويل هو بناء مستقبل قوي، يقوم على دولة وطنية راسخة وثابتة، دولة مؤسسات وليست دولة أفراد، دولة قانون وليست ساحة للفوضى والتخريب، دولة للحوار البناء وليس لتصفية الحسابات الهدامة، دولة تتبنى خطاب السلام والاستقرار وليس خطاب الصدام والتأزيم.

الفرصة سانحة الآن أمام العراق لأن يتقدم إلى الأمام بكل قوة، مائة عام مضت، تفاصيلها كثيرة، لكن شواهدها ومحطاتها تقول: إن الذي تمكن من مواجهة الاستعمار والاحتلال يوماً ما، قادر الآن على تجاوز الصعاب، والعبور نحو مرحلة جديدة بقواعد وآليات تسهم في تقوية المناعة السياسية والوطنية للدولة العراقية، في مواجهة أعاصير إقليمية ودولية وألسنة لهب تشتعل هنا وهناك.

ربما السؤال الذي يطرح نفسه بقوة في مثل هذه المناسبة، مناسبة مرور قرن على تأسيس العراق الحديث هو ماذا بعد؟ ما الصورة التي يجب أن يقدم بها العراق نفسه إلى العالم؟ وما ضمانات بقاء العراق قوياً متماسكاً في مواجهة أطماع الجغرافيا والتاريخ؟ وكيف يستعد لمواجهة قرن جديد؟

كل المؤشرات تقول: إن العراق جاهز للانطلاق إلى أفق جديد، يتماشى مع حجمه التاريخي ووزنه وثقله النسبي في الإقليم، نهاية مائة عام على تأسيسه، يتواكب مع انتهاء العمليات القتالية للقوات الأمريكية، التي عادت عام 2014، وهذه خطوة تحسب لرئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، الذي نجح في إقناع واشنطن عبر أربع جولات من الحوار الاستراتيجي بإنهاء هذه العمليات القتالية.

الصورة تزداد وضوحاً، ملامح العراق الذي عرفناه تعود تدريجياً، الشعب العراقي ومؤسسات الدولة لا بد أن يستثمرا هذه الفرصة للبناء عليها، وصناعة مقبولية جديدة للعراق، وسط متغيرات سريعة ومتلاحقة.

المستقبل يتحدث، جدول أعمال العراق خلال قرن جديد يتطلب تكاتف واصطفاف الشعب خلف الدولة الوطنية، والحفاظ على سلامة ووحدة البلاد، والإصرار على استقلال القرار العراقي، وعدم السماح بأي تدخلات خارجية في الشؤون الداخلية والوطنية للعراق، وتنبيه الدولة إلى أهمية الوقوف على مسافة واحدة من جميع أبناء العراق، وتعزيز مفهوم وقيم المواطنة، والسعي بقوة لوضع رؤية مستقبلية، للاستفادة من الموارد والإمكانات الضخمة، سواء كانت بشرية أم اقتصادية لا سيما أن كل المؤشرات الدولية تقول: إن العراق لديه فرصة هائلة وكبيرة، ليصبح ركيزة أساسية في الشرق العربي، الفرصة متاحة، والطريق ممهد لبداية مشوار قرن جديد، بتوقيع العراق وشعبه.

 

* رئيس تحرير مجلة الأهرام العربي