في الزمن البعيد أو الأبعد بدأ الإنسان القديم تعاملاته المالية بنظام المقايضة، ثم تطورت تعاملاته المالية بتطور النظام الاقتصادي، وبعد أن انتقل من نظام المقايضة إلى نظام العملات النقدية التي استمرت في تطور عن شكلها البدائي إلى أن وصلت إلى آخر شكل لها، وهو ما نجده اليوم في عالمنا، ذهب الإنسان للبحث من جديد عن سبل أجدى لتعاملاته المالية والمصرفية بما يتناسب مع الثقافة المالية المتحولة ومعطيات النظم الاقتصادية الجديدة التي يعيشها العالم، ثم بما يتوافق مع صداقة البيئة التي يتبنى مبادئها مشروع تحقيق الأهداف السبعة عشر للتنمية المستدامة.

رغم ذلك فلا يمكن القول بأن التحول المالي الذي هو في طور الطفولة، في الوقت الراهن، قد جاء استجابةً فقط لمظاهر تحول النظم الاقتصادية، أي بعد التحول نحو النظام المعرفي أو لغرض تحقيق أهداف التنمية المستدامة، كلا! فما دفع نحو هذا التحول بشكل رئيس بالإضافة إلى ما سبق هو أيضاً البحث عن السبل الآمنة للتعاملات المالية والقضاء على كافة مظاهر الاقتصاد الأسود أو اقتصاديات الظل التي تخالف الشرع والقانون وتمنع من رخاء وازدهار الحياة الإنسانية في العالم، مثل جرائم غسيل الأموال وتزوير العملة وما عدا ذلك من مظاهر فساد سادت بشدة في العصور التقليدية الاقتصادية.

وقد بدأت الرغبة في عملية التحول في هذه التعاملات المالية بوضوح مع بداية عصر كاردات الحسابات المصرفية البنكية، ثم بدأ الأمر أكثر جدية عند استخدام كاردات حسابات المصارف البنكية في عمليات البيع والشراء في المتاجر الكبرى وغيرها من المرافق العامة والخاصة، وظل الأمر يتسع أكثر لنجد اليوم حديثاً واسعاً ومستفيضاً حول العملات الرقمية ودفاتر البلوك تشين والمحافظ الرقمية، وسيستمر الأمر في الاتساع أكثر بلا شك لتكون هناك أشكال متعددة من هذه المحافظ المالية الرقمية، بعضها أيضاً قد يكون في شكل كبسولة يحملها الإنسان داخل ذراعه وتكون معه أينما ذهب، ومن خلالها فقط يمكن أن يحتفظ بأمواله ويمارس عمليات البيع والشراء في أي وقت بدون حاجة إلى وسيط أو طرف ثالث من أي نوع كان، وقد يستمر الاتساع في هذه الأشكال ليصبح التعامل من خلال بصمة قرنية العين مثلاً، أو ربما أكثر من ذلك.

إننا نعيش في عصر تمثل التحولات فيه طفرة لا يمكن أن تستقر أو تتوافق على شكل ما حتى يجد الإنسان ما يعبر عن حاجته بالفعل من أشكال قد تكون تقليدية مألوفة تم تحديثها نوعاً ما، وقد تكون إبداعية ابتكارية إلى أعلى المستويات، لكن المؤكد في كلتا الحالتين أنهما ستكونان ممزوجتين بالتقنية الحديثة وإبداعات التكنولوجيا، التي بحق يمكن الرهان عليها.

إن الحضارات لا تندثر، أو تتوقف عن التطور، إلا عندما تتوقف عن الإبداع والابتكار، ولعل في قولنا هذا ما يؤكد أن الرهان على مستقبل البشرية وحاضرها مرهون بتميز الإبداع البشري والتمتع بروح الابتكار في تفاصيل نتاجات أبنائه، وإذا كان العالم يواجه اليوم أزمات من أنواع شتى فإن التصدي لها بلا شك سيعبر عن مقدار ما وصلت إليه البشرية من وعي بوجودها عبر هذا التاريخ الطويل من التراكمات المعرفية والخبرة الإنسانية، وتعبير أيضاً عن رغبة إنسان اليوم في البقاء، والتي هي أقوى رغبة يمكن الرهان عليها للنجاة. وللحديث بقية.

 

خبيرة اقتصاد معرفي*