«تسليع المعرفة»، مصطلح أعني به تحويل المعرفة إلى سلعة، هذه المعرفة هي رأسمال اقتصاد النظام المعرفي العالمي، وأهم أصوله.

 

ولا بد من التوضيح أن موضوع تسليع المعرفة، مرهون بوجود أمرين مهمين، الأول مدن معرفية، والآخر أدوات صناعة المعرفة، وتوافر كلاهما يشير إلى أهمية توافر القوة، إلى جانب المعرفة، على حد تعبير قدماء الفلاسفة، والمعنى أن تتوفر للإنسان المعرفة، والقدرة على تطبيق المعرفة، وتحويلها إلى اقتصاد، لأن ذلك هو هدف الحياة الأسمى، فالمعرفة وحدها لا تكفي، واتساع الهوّة المعرفية، يحرم معظم الدول النامية من المشاركة الحقيقية في الاقتصاد العالمي الجديد، ما قد يعرضها لمخاطر كثيرة، تبدأ بالاقتصاد، وتتسع لتشمل الاستقرار والأمن.. وليس المقصود بالهوّة المعرفية، أن هناك من لا يستطيع امتلاك المعرفة، أو من لا يملكها، بل تعني عدم القدرة على إدارتها واستثمارها، وأقصدتها، وتسليعها، وتحويلها إلى مورد اقتصادي، تعود ثمرته على ازدهار الدخل القومي للأفراد، ويرتقي بالاقتصاد الوطني، أما المعرفة ذاتها، فهي حيثما أدرنا وجوهنا سنجدها.

إن التعريف السائد، قديماً، للاقتصاد، هو أن تحضر اليوم لمطالب الغد، أما اقتصاد اليوم فيقول، أن نستخدم أشجار الأمس حطباً لليوم، أي أنها قد تجاوزت مرحلة الرطوبة، وصارت جافة وصالحة للاستثمار.

إذن، من القوة أن نمتلك مدناً معرفية، وصناعات معرفية، لتحقيق حالة تطبيق المعرفة وتسليعها، وأما مدن المعرفة والمدن التقنية، فإن ظهورها في العالم أخيراً، قد بدأ يزداد نمواً وانتشاراً بشكل كبير وملحوظ، ويأتي هذا، كنتيجة طبيعية لأهمية هذه المدن، وقدرتها على تحريك الدفة، والدفع بعجلة التنمية والاقتصاد لكل الدول، وكذلك لدورها في زيادة الناتج المحلي، وزيادة فرص العمل.

وهي تعتمد في صناعاتها على كفاءة العنصر البشري، واستخدام العقل للاختراع والتطوير، أكثر من الاعتماد على المواد الخام، وتدخل هذه الصناعة في قطاعات كثيرة، بل إن بعض الدول، جعلت الصناعات المعرفية وتصدير السلعة المعرفية، المورد الاقتصادي الرئيس لها.

يرى ميتشل في كتابه «مدن المستقبل»، في إشارة إلى مدن المعرفة، أن المدن ستستقل عن محيطها المكاني أو الجغرافي، اعتماداً على أن الشبكة العنكبوتية، أوجدت ما يمكن تسميته بالأجور الإلكترونية، والتي اختلفت معها فكرة تجمع المجتمعات في الحياة العمرانية.

ولقد أعادت الشبكة العنكبوتية صياغة المحيط المكاني للمباني والمدن بصورة جوهرية، وأصبحت حياة المدينة تُنظَّم وتُدار بقواعد جديدة عما كانت عليه سلفاً، وبالتالي، تغير دور المباني في مدن المعرفة، عما كانت عليه من ذي قبل، وصار للمباني الذكية دور جديد في دعم مفهوم وبناء مدن المعرفة.

وأما الصناعات المعرفية، فتشكل عملية تنمية الأسواق المحلية وأسواق التصدير، عاملاً مهماً من عوامل ازدهارها، واستراتيجية يجب مراعاتها لتحقيق حالة تسليع المعرفة، حيث يعد تنشيط وتنمية الأسواق، شرطاً مهماً من شروط استمرارية الصناعات المعرفية ووجودها، ورغم ذلك، فإن هذه الآلية لا تكفي وحدها لإنعاش وجود الصناعات المعرفية، لأن إدارتها بوعي، وإدراك شرط مهم أيضاً إلى جانب تلك الآليات.

ومما يذكر، أن بعض الدول، كالولايات المتحدة واليابان، استطاعت أن تصل إلى ما نسبته 50 % إلى 60 % من دخلها، في الصناعات المعرفية، وتصدير السلع المعرفية، من إجمالي كل النواتج الصناعية والتكنولوجية، بفضل استراتيجية تنمية وتنشيط الأسواق المحلية، وأسواق التصدير، وإداراتها الجيدة.

وثمة استراتيجيات مهمة، وعوامل من شأنها تعزيز وجود صناعات للسلع المعرفية في أي دولة، منها استراتيجية توسيع البحث التطبيقي والتطوير ونقل التقنية، حيث يعد دعم حركة البحث التطبيقي، من أهم عناصر التقنية المعلوماتية، ويتم هذا من خلال تشجيع الإبداع والابتكار، ودعم الإنتاج الفكري، وتنشيط الحاضنات التكنولوجية، في سياق دعم الأفكار الجديدة، ومن ذلك، تنشيط جانب توسيع البحث في التقنيات الجديدة، كالنانو، وغيره من الصناعات التي يمكن أن يزدهر في ظلها الاقتصاد المعرفي، والصناعات القائمة على المعرفة، إلى أعلى مستوياتها، مواكبة لمتغيرات العالم، وما تفرضه التكنولوجيا من تحديات وتحديثات. وللحديث بقية.