يتميز عصر المعرفة الذي نعيشه اليوم بالعديد من الميزات والسمات، خصوصاً الأدوات التي يوفرها لتسهيل عمليات نقل وتداول المعرفة بين جمهور الباحثين عنها والمتلقين لها.
وأهم هذه الأدوات وسائل التكنولوجيا التي تمتاز بإمكانية الوصول الكبير وسعة رقعتها التي ما فتئت في كل يوم تزداد اتساعاً في أنحاء هذه البسيطة.
ومن تلك السمات التي توفرها أدوات عصر المعرفة سمة «التدفق المعرفي»، التي أعني بها أن ما يمكن الوصول إليه من نتائج بحثية قبل عشر سنوات عبر وسائل التكنولوجيا ليست هي النتائج ذاتها التي قد نصل إليها الآن، وكذلك الأمر يختلف في نتائجه بعد عام من الآن وبعد عشرة أعوام أيضاً، ومثلما تمثل المعرفة الإنسانية التي نجدها في ثنايا الكتب والمؤلفات اليوم خلاصة التجربة والتراكمات التي تعبر عن امتدادات زمنية طويلة من البحث والممارسة المعرفية، ستمثل في سياق التكنولوجيا تلك المعرفة ذاتها بعد أمدٍ من الوقت خلاصة التجربة الإنسانية وتراكماً معرفياً هائلاً من خلال هذا التدفق المعرفي المستمر، الذي يشبه النهر الذي ينتهي مسيره إلى المحيطات وتتغذى به الآبار ويصير مخزوناً إضافياً في أعماق الأرض.
وعن سمة «التدفق المعرفي» ذاتها وعن المستهلكين لها من جمهور المعرفة، فيمكن القول بأنها تشبه ما قاله الكاتب «مايك ريغان»: «قلائل هم الذين يشربون من نبع المعرفة.. الغالبية يتغرغرون بها فقط».
إن أهم غاية يمكن أن نطمح إليها في تفاصيل سمة «التدفق المعرفي» والممارسة المعرفية عموماً والمرتبطة ارتباطاً وثيقاً باقتصاد المعرفة هي السعي نحو إنتاج أجيال مفكرة لها القدرة على التحليل والبحث والاستنتاج، وليس أجيالاً تعتمد على التلقين والحفظ والتفكير النقلي، والتي سادت في الماضي كنتيجة طبيعية للوعي القائم على أن النجاح العلمي مرهون بنتائج الاختبارات، وهذه النتائج تقتضي الإجابة عن مجموعة من الأسئلة التي تتجه نحو إجبار المتعلمين على طريقة الحفظ وتلك المنهجية في أساليب التلقي فقط، في حين أن جوهر العلم يكمن في القدرة على الممارسة النقدية بكافة أشكالها، وفي كل تفرعات العلم ومجالاته واستغلال سمة «التدفق المعرفي» للمشاركة في إنتاج المعرفة من خلال منح المتلقين والباحثين وطلاب المعرفة فضاءً واسعاً من الحرية لممارسة علمية قائمة على التحليل وطرح التساؤلات والبحث والاستنتاج.
وفي هذه النقطة نجد أن اللوائح العلمية قد جعلت هذه المهمة من مهمات التعليم العالي والأكاديمي. وحين نتساءل إذا كان الأساس كله يعتمد على الحفظ والتلقين الأبوي والسلوك العلمي النقلي، فكيف يمكن أن يكون التعليم العالي مميزاً بحالة مغايرة عن هذه السياقات، ومنتجاً لمعرفة يمكن اعتبارها حقيقية تشكل إضافة إلى المعرفة الإنسانية التي تثمر في الازدهار والرقي وخدمة البشرية؟ وإن كان ولا بد فليكن ثمة سقف للحرية في المراحل الأولى للتساؤل أكثر اتساعاً مما هو للتلقي القائم على التفكير النقلي، وبالتدرج يحصل التمكن من امتلاك أدوات النقد وممارسته مبكراً في سبيل التمكن من خلق وإنتاج معرفة لا يقتصر فقط على المستويات الأكاديمية في التعليم، لأن الركون إلى منهجية الحفظ والتفكير النقلي لا يخلف إلا أجيالاً مصابة بشلل ذهني.
أخيراً يمكن القول بأن ما توفره سمة «التدفق المعرفي» لجمهور الباحثين والمتلقين للمعرفة من مستهلكين عابرين أو طلاب لها تشبه امتلاك قاربٍ في عرض البحر، فإن يستخدم المرء عقله ونقله يشبه أن يستخدم مجدافي القارب فيبحر ويصل أخيراً إلى بر الأمان، وإن يستخدم عقله فقط أو نقله فقط فيشبه أن يحاول المرء أن يسير بمجداف واحد مرة يميناً ومرة يساراً، وهنا يظل قاربه يتحرك، لكنه سيبذل مجهوداً كبيراً، وقد لا يصل إلى بر الأمان، وإلا قد هلك قبل ذلك، وأما البقاء ساكناً بلا نقل أو عقل فيستهلك لمجرد الاستهلاك ويقضي أوقاته لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، فيعني أن ينتظر المرء الموجة التي ستغرقه وتغرق قاربه في هذا البحر المعرفي الواسع الذي يزداد تدفقاً كل يوم أكثر فأكثر.. وللحديث بقية.