لخمسة أيام عصيبة، توحّدت قلوب ملايين العرب في قلب واحد، بحجم قبضة يد صغيرة، قلب بقي ينبض بضعف، حتّى استسلم أخيراً لإرادة القدر، وقد (قدّر الله وما شاء فعل)، لتسلّم قلوب هؤلاء الملايين بإرادة الباري عزّ وجلّ، لكن مع ألم وحزن قلّما يجمع كلّ هذا العدد من المتضامنين بين المحيط والخليج.
خمسة أيام، ونحن نترقّب بقلق ما ستؤول إليه جهود الأشخاص الذين جنّدوا أنفسهم لإنقاذ الطفل المغربي (ريان)، الذي تحوّل إلى أيقونة للخوف والجوع والوحدة والبرد، وقد لفّته غيابة الجبّ، لتضمّه يد القدر رأفةً ورحمةً به مما قد تتركه هذه التجربة المريرة من آثار سيئة في صحته الجسدية والنفسية.
فعلى الرغم من الألم والحزن الذي اعتصر قلوبنا، ونحن نسمع خبر إعلان رحيل (ريان) عن هذه الدنيا، إلا أنّنا نؤمن برحمة الله عز وجل، فلعلّ رحيلَه خيرٌ له، لأنّ ما عاشه خلال وجوده في البئر من خوف وظلمة وبرد ووحدة، لا يمكن أن يمضي دون أن يترك أشباحاً تلازمه طوال حياته، من كوابيس واضطرابات نفسية، وآلام لا تزول بدون معالجة طويلة الأمد.
وهي إن توفّرت -على صعوبتها بالنسبة لطفل في قرية نائية بسيطة- إلا أنها غير مضمونة النتائج، ويبقى الإيمان بقضاء الله وقدره، خير مواساة لأسرة الطفل (ريان)، ولجميع من تعلّق قلبه بهذا الطفل، الذي ارتفعت حناجر الملايين بالدعاء له، راجية أن تضمّه جنان الخلد في جنباتها بين الملائكة والشهداء.
لم يكن (ريان) الطفل الوحيد في المغرب، ولا في الوطن العربي، الذي تعرّض لمأساة، بل هناك الكثير من الأطفال ممن يعانون، وعاشوا ويعيشون تجارب مماثلة، بشكل أو بآخر، لكن (ريان) جذب الأنظار، بغرابة ما حدث له، فقد سقط في بئر تكاد لا تكون من صنع البشر.
وليس معلوماً إن كانت قد حدثت كتشكيل جغرافي طبيعي، بفوهة لا تزيد على 40 سم، وعمق 60 متراً، ليعلق في منتصفها تقريباً، وتهبّ لنجدته الجهات المختصة في المملكة المغربية، من فرق إنقاذ وإسعاف، وحفّارات وخبراء جيولوجيا، إلى أهالي البلد الذين تطوّع منهم أطفال بعمر 12 عاماً و16 عاماً، للنزول إلى البئر وإخراج (ريان)، مستعدين للتضحية بأنفسهم في سبيل إنقاذه.
وهذا يطرح تساؤلاً عن ماهية هذه البئر، وهل هي الوحيدة في تلك المنطقة؟! ويستلزم تحركاً من المعنيين والأهالي أنفسهم، لإغلاق هذه الآبار، والتعامل معها بما يضمن سلامة وأمان الأهالي.
لقد سلّطت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، اهتمامها الكبير على هذه القصة، ونقلتها لحظة بلحظة، لتستقطب الآراء والأفكار المفيدة التي يمكنها أن تسهم في إنهاء مأساة (ريان) وأسرته، لكن القدر كانت له مشيئة أخرى.
ولم تقصّر السلطات والجهات المختصة في المملكة المغربية، بتقديم كل ما يلزم لعملية الإنقاذ، ورغم أنّ من عملوا على إنقاذ (ريان)، لم يوفّقوا في إعادته حيّاً، إلا أنهم بذلوا من الجهد والتعب ما لا يوصف، وأعادوا الجثمان الصغير إلى أهله، ليصلّوا عليه، ويسجّوه في التراب كما يليق. ومما لا شك فيه، أن الجمعيات الخيرية والاجتماعية، والجهات المعنية، ستقدّم الدعم لأسرة ريان، والتكريم لكلّ من ساهم في عملية الإنقاذ.
لقد أثبتت هذه التجربة، أن الإنسانية أعظم من أي خلاف بين دولتين أو شعبين، أو فئتين من أي انتماء، لأن (ريان) وحّد جميع العرب، تحت اسم الإنسانية، واقتلع الحدود من جذورها.
(ريان) الذي لم يرتوِ من مياه الحياة.. أصبح رمزاً لتوحّد الإنسانية، ورمزاً لكلّ طفل تأخذه غيابة الظلم والفقر والبرد، في مخيّمات اللجوء، وفي أزقّة المدن الفقيرة، وخلف متاريس الأطراف المتقاتلة، وفي كلّ بقعة من الأرض يلفّها الظلام والجوع والبرد.
(ريان).. صورة لكل طفل يحتاج إلى يد الإنسانية لتنتشله من بئر الألم والخوف، وصورة لما نغرس من زرع لمستقبل إنسانيتنا، فبقدر ما نرعى هذا الزرع، ينشأ قوياً صامداً وقادراً على النجاة، وعلى حماية هذه الإنسانية، التي امتلأ جسدها بالجراح.. فدعونا نضمّد جراح إنسانيتنا ببعض العطاء، ننثره على الدماء النازفة، فتنبت أزهاراً يانعة.
* رئيس مجموعة الدكتور أحمد النصيرات للتميز والابتكار