الأزمة الأوكرانية.. قراءة في أنماط التحالف

بمجرد أن استشعرت موسكو القلق من ميل موازين قوى العملية السياسية في أوكرانيا، لصالح فريق المنحازين للالتحاق بالأطر الغربية، كالاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، استشاطت غضباً، وبلغ بها الانفعال حد التكشير عن الأنياب العسكرية.

عندئذ، لم تتأخر ردود الأفعال الساخطة، الأوروبية والأمريكية، على جانبي الأطلسي. وفى غمرة التلاسن الحاد المحموم بين موسكو والعواصم الغربية، انبعثت ظواهر كئيبة، طال الظن بأفولها عن ساحة المنافسات الدولية، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك معسكره الاشتراكي.. حتى حسب البعض أن العالم يقف على مشارف دورة جديدة من الحرب الباردة.

بل وثمة من تساورهم الهواجس بأن عالمنا بصدد أزمة قد تهوي به إلى درك صراع مسلح، تنطلق صافرة بدايته من خطوط التماس الروسية الأوكرانية، وهو ما تم تجنبه بصعوبة، حين سيطرت روسيا على شبه جزيرة القرم عام 2014. والحق أن ربط موسكو للتفاعلات السياسية المناهضة لها في أوكرانيا، بالخطوط الحمراء للأمن القومي الروسي.

واقتران هذا التصور بالتصعيد الدبلوماسي والإعلامي والمناورات العسكرية، أدى إلى غلو التوقعات باتجاه استذكار مشاهد الحروب العالمية الباردة والساخنة. كيف لا، وقد كان الشغف بالتعبيرات القومية الشوفينية، وانتشار منظورات ما يسمى بمناطق النفوذ والمجالات الحيوية والحدائق الخلفية، من أهم أسباب اندلاع مثل هذه الحروب في الرحاب الأوروبية بخاصة، ثم عولمتها بشكل أو آخر، خلال القرن الماضي.

هناك معطيات كثيرة في الأزمة الأوكرانية وتوابعها، تغري باستدعاء هذه الذكريات إلى أجندة العلاقات الدولية الراهنة. لكن الملاحظ أن أطر التحالفات والاصطفافات المصاحب للأزمة، يخالف الأنماط التي تبلورت في مضمار أزمنة الحروب الباردة والساخنة السابقة.. إذ لسنا اليوم أمام معسكر ضد معسكر بالمفهوم التقليدي، وإنما ما زلنا أقرب إلى مشهد تقف فيه دولة كبرى، روسيا، مقابل حلف الناتو بكامل قوامه.

لقد ثبت أن التحالف الغربي، بزعامة الولايات المتحدة، ما زال متماسكاً وقادراً على التنسيق متعدد الأبعاد، والتعامل بلغة توافقية تعاونية. هذا في حين تكاد موسكو تفتقر للحلفاء العتيدين، المظهرين عياناً للجهوزية في مؤازرتها.. وذلك باستثناء القوى التابعة والمتدثرة بالعباءة الروسية في الداخل الأوكراني ذاته.

نود القول، إنه مع إطلال قضية المصير الجيوستراتيجي لأوكرانيا، وفور ظهور عدم استبعاد موسكو لاستخدام القوة في معالجتها، وجدنا مواقف وردوداً أمريكية وأوروبية بالغة الانسجام، أقرب إلى روح حلف الناتو ولغته وتوجهاته، منها إلى السياسات القومية المنفردة. فقد عجلت واشنطن باستنكار السياسة الروسية المتحفزة، وإبداء الاستياء من تلويح موسكو بالخيار العسكري.

وذهب الرئيس جو بايدن، إلى أن «أي تحرك عسكري روسي لغزو أوكرانيا، سيقابل برد صارم، يكلفها خسائر باهظة». ومن أجل التخفيف من مخاوف موسكو، ذكر أكثر من مسؤول أمريكي، أن واشنطن «تعترف بالمصالح الروسية التاريخية والثقافية والاقتصادية في أوكرانيا والقرم، ولكن ذلك لا يبرر انتهاك سيادة أوكرانيا وسلامة أراضيها..».

واللافت أن بقية الحلفاء الأطلسيين، راحوا مجمعين يعزفون هذا اللحن، بل إن منهم من استخدم التعبيرات التحذيرية الأمريكية ذاتها، كالقول مثلا بأن «السياسة الروسية لن تمر بلا ثمن، وأن مضي روسيا في تحدي القانون الدولي، سيقودها إلى عزلة سياسية واقتصادية».

لنا أن ندرج ما يدور في فلك الحدث الأوكراني، ضمن أبرز الوقائع لقوة الناتو، التي تعلو في ضوئها، وتتعزز رؤية الداعين في عالم الغرب، إلى استمرارية هذا الحلف، بينما تذوي وتخفت أصوات معارضيهم..

أولئك الذين استغلوا تضخم النزوع الأمريكي إلى الانفراد في اتخاذ بعض القرارات الفارقة، كالانسحاب من أفغانستان، للدعوة إلى مزيد من الاستقلالية الأوروبية، وصولاً إلى محاولة تكوين قوة دفاعية مستقلة عن سطوة «المعلم» الأمريكي، ومظلته العسكرية في القارة العجوز.

عطفاً على هذه الشواهد، يثار السؤال عن الخطوة الروسية التالية، وما إن كانت موسكو ستعيد تقييم وضعها الاستراتيجي، لا سيما لجهة البحث عن محالفين حقيقيين، لا يكتفون بإلقاء المواعظ وتطييب الخواطر، عبر مواقف مترددة متلعثمة، بينما يضعون أعينهم على واشنطن، ويغازلون عالم الغرب بعامة؟.

الإجابة عن هكذا تساؤل، ربما اقتضت، التعجيل بإعادة النظر في فتور العلاقة الروسية مع الدول التي تحدرت عن تفكك الاتحاد السوفييتي، ثم الاجتهاد في تعزيز العلاقة مع القطب الصيني الصاعد، استغلالاً لمخاوف بكين من التنمر الأمريكي، ولعله الغربي بعامة، المتصاعد تجاهها.

 

* كاتب وأكاديمي فلسطيني