العاصفة والبحارة

تقول الحكمة الصينية القديمة: «عند هبوب العاصفة، يتعرّف البحّارة الماهرون على بعضهم البعض»، فكثيراً ما تكون الظروف الاستثنائية والمنعطفات الصعبة في سياق الأحداث هو ما يجعل البشر يُعيدون ترتيب أولوياتهم، وتنظيم أمورهم من جديد، فمن لا يُساير المتغيّرات ولا يحاول التكيّف معها بما يحقق مصالحه ويحفظ مقدّراته سيجد قادم الأيام يحمل له الكثير من المصاعب التي لا يستطيع تحمّلها ولا تجاوزها.

السياسة بين الدول ليست «ميلس رَبْع»، ولا طريقاً أُحادي الاتجاه دوماً، بل هي أشبه بالسباحة في بحيرة مليئة بالتماسيح، أو السير على حافة فوّهة بركان، فما يُحدّدها دوماً هو المنافع المشتركة، وما يوجّهها في مساراتٍ بعينها هو التغيّر المستمر في «مزاج» العالم من حولك، ومن لا يستطيع أن يكون مرناً على الدوام للتعامل بفعالية مع هذه المتغيرات فإن القطار سيفوته، ومن فاته القطار سيجد نفسه وحيداً في الغالب في عالمٍ مادي شرس، هذه المرونة التي يستعصي فهمها على البعض!

يستعصي أو ربما يتعمّد أن يفهمها بطريقة مغلوطة، فإنْ كانت الدولة التي يحبها هي من تتبنّى السياسة المرنة في التعامل مع متغيرات الأحداث من حولها، اعتبرها ذكاءً و«ضربة معلم»، وإن فعلتها دولة يُبغِضها و«ما تنزل له مِن زور» وَصَمها بالتلوّن والنفاق، وإن بحث من يُحب عن مصالحه ودخل في تحالفات إقليمية أو دولية لم تكن متوقعة سابقاً قال عنها بأنّها عبقرية الإدارة وأنّ هذا هو غاية السياسة على الدوام، أمّا إن قام بالأمر نفسه مَن لا يهوى فإنّه سيكون طرفاً ميكافيللي التفكير والنزعة، لا يؤتمن ولا يجدر الاعتماد عليه!

تقول العرب: «كل شيء لا يوافِق هوى الأحمق، فاعلم أنّه صواب»، فعلى العاقل أن لا يتكدّر باله بما قد يصله من الناقمين من تعليقات لا تفضح إلا سوء النوايا، فالخير لن يتغيّر جوهره إن عابه ناقص عقل، وعمل الصحيح لن يشينه إن لم يَرُق لمنتكس بصيرة، المهم أن لا ينزلق هذا العاقل إلى معارك مستفِزّة لا طائل من ورائها، فهذه المعارك الصغيرة خسارتها بالابتعاد عنها هو الربح الأوفر!

تحدّث كُتّاب ومثقفون كُثُر عن زيارة الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان لدولتنا الحبيبة، وعن مستقبل العلاقات بين البلدين والاتفاقيات العديدة التي تم توقيعها والتي تنبئ بعهد جديد من علاقات مثمرة قائمة على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل، ولن أزيد على ذلك بشيء يُذكر، ولكن يهمّني أن أترجم ذلك الارتياح الكبير الذي لمسته عند أغلب من سمعت له أو قرأت له في وسيلة إعلام أو منصة تواصل، بالتقارب الذي حدث بيننا وبين دولة ذات ثقل اقتصادي وسياسي وعسكري في المنطقة كالجمهورية التركية، فالتحديات الإقليمية والدولية كثيرة والتغيّرات في الأوضاع من حولنا مفاجئة ومربكة، وعين العقل أن يتم تنقية الأجواء والبدء بصفحة جديدة قائمة على الاحترام المتبادل مع شريك له حضوره القوي، ليكون حليفاً جديداً يُضاف لمن سبقه من حلفاء يُشكّلون معاً تكتّلاً مؤثراً للحفاظ على مصالح أطرافه وتعزيز أمنها واستقرارها في ظل تسارع غريب للتصعيد السياسي بين القوى الكبرى يُمنةً ويُسرة.

ما نحتاجه نحن كأفراد مجتمع هو أن يفهم البعض أن السياسة لها أهلها، وأن العلاقات بين الدول تُترَك لـ«كبار القوم»، فهم أدرى بمسارات الأمور وخباياها، وكيف أن كل ضغط في ملف أو اتجاه هو لتحقيق مكاسب محددة، وكل تساهل في ملف آخر هو سعي لنيل هدف يخفى على العامة، وأن ضجيج المتسكعين على منصات التواصل الاجتماعي وتأجيجهم لكل قضية وشنّهم لحملات استعداء للآخرين - وهي حملات غير مبررة ولم تُطلَب منهم - يجب أن يتوقف، وأن خير ما يفعله هؤلاء البعض هو أن يهتموا بتأدية وظائفهم على أكمل وجه، أمّا البلد فله قادته، ومن يُدير أموره أدرى به وأعلم بسياسته و«أبْصَر» بمن يثق وعلى من يتكئ وممّن يُحاذر.

 

* كاتب إماراتي