لا ناقة للعرب ولا جمل، كما يقول المثل العربي الشهير، في تنفيذ العقوبات الأمريكية، والغربية على روسيا الاتحادية، التي تضمر في ثناياها صراعاً غير خفي على الأسواق العالمية، وتجاربنا في منطقتنا العربية علمتنا أن سياسة فرض العقوبات لا تضر بالأنظمة، بل تتحمل الشعوب كل تبعاتها. وليس ارتفاع أسعار السلع الغذائية، ومعظم أسعار السلع الأخرى، إلا عرض واحد من أعراض ارتفاع أسعار الطاقة، بعد فرض تلك العقوبات، وصندوق النقد الدولي يرصد مظاهر سلبية أخرى لها على الاقتصاد العالمي، بينها التضخم وارتفاع الديون، وعجز الموازنات الغربية، وأزمة الغذاء العالمي.
ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والولايات المتحدة لا تكف عن تصدير مشاكلها الداخلية، بالخوض في مغامرات خارجية، كبدت منطقتنا غزواً للعراق، الذي أسقط نظام صدام حسين، بعدما فشلت العقوبات في تحقيق ذلك. وحتى من قبل ذلك، اندلعت في منطقتنا صراعات طائفية ومذهبية، ما تكاد تتوقف، حتى تبدأ من جديد، ولا هدف يلوح في أفقها، سوى هدم الدولة الوطنية، بسياسات فرض العقوبات والغزو والاحتلال والهيمنة، والردع بالديمقراطية، والتعبير من قول المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي وصفاً للغزو، الذي تم للعراق.
قبل أيام، كشف اجتماع قادة حلف «الناتو» عن انقسام في موقف دول الحلف بشأن تطبيق العقوبات المفروضة على روسيا، وبرزت لغة المصالح فوق المواقف الأيديولوجية، التي لا هدف لها سوى تسريع سياسات سباق التسلح، وإنعاش سماسرة السلاح، وتجار الحروب برفض عدد من دوله تطبيقها، في ما يخص الغاز الروسي.
وطوال العقود الأخيرة تصاعدت الدعوات لتعديل ميثاق هيئة الأمم المتحدة، بما يسمح بصوت دائم لدول ما يسمى العالم الثالث في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، داخل مجلس الأمن، لكي يعتدل ميزان القرار الدولي، الذي باتت تهيمن على مسيره ومصيره واشنطن وحلفاؤها من الغربيين، لكن دون جدوى، كما ذهبت أدراج الرياح كذلك الدعوة لنقل مقر هيئة الأمم المتحدة إلى إحدى الدول الأوروبية المحايدة، بعيداً عن التأثير المضاف، الذي تمنحه دولة المقر على صدور ذلك القرار وفاعليته.
وأثناء الحرب الباردة استعانت واشنطن بتيار الإسلام السياسي في حربها ضد الشيوعية، فأنبتت له أنياباً وطموحات بلا سقف لحدودها، وفي بداية الألفية الجديدة دخلت حرباً ضده، بزعم محاربة الإرهاب، فلم يتقلص، بل تمدد وتحور وتجددت أساليبه مع التطور الهائل في ثورة الاتصالات، ومكنت الإدارة الأمريكية جماعة الإخوان من قيادة ما سُمي «الربيع العربي»، ورفضت كل دعوة لإدراجها في قوائم الجماعات الإرهابية، برغم كل الإثباتات التي قدمت إليها، بتناسل التيارات الإرهابية من رحمها، وبرغم إدراجها في عدد من الدول العربية الحليفة لها في تلك القوائم.
ومرة أخرى، ولن تكون الأخيرة، تستدعي واشنطن الجماعة وحلفاءها من التيارات الدينية المتشددة للعب دور في الأزمة الأوكرانية، لتحيي من جديد أماني عودتهم لحكم دول المنطقة، لكن من حسن الحظ، أن المفاوضات بين موسكو وكييف أضحت تؤتي ثمارها، وباتت فرص التوجه لحل سياسي للأزمة مواتية، ومع صمت أصوات المدافع فإن كل التوقعات تشير إلى تغيرات دولية وإقليمية ستعقب انتهاء الحرب. والشيء الوحيد الذي يجنب العرب أثماناً مرتفعة لأزمة هم إحدى ضحاياها، هو العمل على الحفاظ على الحد الأدنى من مصالحهم المشتركة، واستدعاء سياسة الحياد الإيجابي في تلك الأزمة، التي تنتهجه بعض الدول العربية، والوقوف على مسافة واحدة من أطرافها، المشاركة في دعم التوصل لحلول دبلوماسية وتفاوضية، هو في هذه الحالة مصلحة عربية.
والعلاقات العربية الأخذة في التطور والنمو، لا سيما في المجالات التجارية والتنموية والتكنولوجية، مع كل من الصين والهند والبرازيل وروسيا ودول أمريكا الجنوبية، من شأنها أن تلعب دوراً في إحداث ذلك التوازن في القرار الدولي، فضلاً عما يقوده ذلك من فتح المجال واسعاً، أمام الخيارات المتعددة لمتخذي القرار في النظام العربي، بما من شأنه أن يجعل الفرصة سانحة أمام العرب للعب دور إيجابي في تشكيل منظومة دولية جديدة متعددة الأطراف، تقود إلى قرار دولي تشاركي، يساوى بين مصالح مجموعاته،
نظام دولي جديد لا أقزام فيه ولا عمالقة، ولا هيمنة واحتكار، لتحديد وجهته واتجاهه.
* رئيس تحرير الأهالي المصرية