سلامُ الله

ت + ت - الحجم الطبيعي
على إيقاع كونيّ فريد يأخذ بمجامع القلب والروح، وبحضورٍ جليل لصنعة المولى العظيم من خلال هذه الكواكب العظيمة الهائلة، نشر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، ومضة رمضانية ضمن وسمه الذي اختاره لهذا الشهر المبارك «ومضات رمضانية» تضمنت مقطعاً شعرياً في غاية الفخامة والجلال اجتزأه صاحب السمو من ابتهاله الشهير ( مقامي )، حيث أبدع في وصف لحظات المناجاة والتضرع للخالق العظيم من خلال لغة في غاية العذوبة والشفافية تشهد له بالصدق واكتمال الشاعرية.
 
مُقامي عند من عرفوا مَقامي قياما حيث همُ شهدوا قيامي
 
بهذا المقطع الجليل يفتتح صاحب السمو هذا الابتهال العميق الذي يجسد شوق الروح الإنسانية إلى مناجاة خالقها العظيم والتخفف من أثقال الحياة التي لا تكفّ عجلتها عن الدوران، وتقتضي من كل ذي لُبّ سليم وعقل رجيح أن يكون له ساعة يخلو فيها بربه سبحانه، فيبثّه همومه وشكواه، ويُثني عليه بما هو أهله، وهو ما يسميه علماء السلوك مناجاة الرب ومحاسبة النفس وفتح نافذة الأمل، ولقد روى ابن أبي الدنيا رحمه الله في كتابه «محاسبة النفس» عن وهب بن مُنبّه قال: «مكتوبٌ في حكمة آل داوود عليه السلام: حَقٌّ على العاقل أن لا يغفل عن أربع ساعات:
 
ساعة يُناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلو فيها العبد بين نفسه وبين لذاتها فيما يحلّ ويُحمد»، وفي هذا الابتهال الجليل يؤكد صاحب السمو على أنه يعي أين يقف الآن، فهو على باب حضرة الجلال قائم على ساق العبودية لمولاه وخالقه.
 
حيث يتحقق الإنسان بالمعنى الصحيح للعبودية لله سبحانه، فهذا هو الشرف العالي والعزّ الذي ما بعده عزّ ولا فخر في مسيرة الإنسان على ظهر هذه الأرض التي جعلها الله موطناً لاختبار عبوديته، وامتحان صدقه في الإقبال والعكوف على باب المولى العظيم بشعور الذل والإخبات والخضوع لجلال الخالق الكبير المتعال.
وتسليمي سلاما من سلامٍ سلامُ الله منه بدا سلامي
 
ولقد جرت سُنّةُ اللطيف الخبير أن يكون هو البادئ عباده بالنعم، فهو الذي فتح لهم باب محبته حين أحبهم فقال في وصفهم: (يحبهم ويحبونه)، وهو الذي أمر نبيه المصطفى ــ صلى الله عليه وسلم ــ بإبلاغ السلام للمقبلين على أبوابه اللائذين بأعتابه في الغداة والعشي فقال له سبحانه: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)، تلطفاً بهم وتسكيناً لقلوبهم التي آثرتْ ربها على كل شيء، فكان لها هذا التكريم بالسلام عليهم من الملك الجليل، وهو المعنى الذي يؤكده صاحب السمو بقوله:
 
سلام الله منه بدا سلامي، فهو سبحانه الذي ابتدأنا بهذا الكرم اللائق به سبحانه، ونحن إنما نستمطر رحمات جوده حين نقف على أبواب عزه وجلاله، ونسأله بسُبُحاتِ وجهه القدوس أن ينظر إلينا نظرة رحمة تُزيل عنّا العناء وتُلحقنا بالصالحين السعداء، إنه وليّ ذلك والقادر عليه.
 
غرمتُ بذاته غرمي غراما وقد غرم الفؤاد من الغرام
 
والغرام عند أهل المناجاة هو رديف الحبّ الصادق الذي يذوب له الكبد من لوعة الشوق، والمحبة هي عَلَمُ العبودية ومنشور الصدق، فمن عرف الله تعالى أحبه بكل جوارحه، وأقبل عليه إقبالاً من الروح والقلب، ولم يترك في قلبه مساحة لغيره، فهذا هو ثمن الحب: التخلي عن الأغيار، وإخلاص القلب للواحد الغفار، فهو العزيز الذي لا يقبل العمل المشترك وكذلك لا يقبل القلب المشترك، وكم يجد أهل المحبة من اللذة في هذا الحب الصادق الذي يفور به القلب وتُضيء به الجوانح، ويترنمون به في خلواتهم، ويجعلونه أجمل لذاتهم، وهو ما عبر عنه الإمام الجليل عز الدين بن عبدالسلام رحمه الله بقوله:
لو كان فيهم مَنْ عَراه غَرامُ ما عنّفوني في هواه ولاموا
لكنهم جهلوا لذاذة حُسنه وعلمتُها ولذا سهرتُ وناموا
وهو المعنى الذي دار عليه بيت صاحب السمو في الإشارة إلى معاناة القلب واستبشاره بهذه المعاناة التي هي عين اللذة والفرح بمعرفة الله تعالى ومناجاته في بيته أو في ظلمات الليل البهيم.
رجاً أرجوه يا من ترتجيه جميعُ الناس يا ربّ الأنام
والرجاء هو جوهر العبودية، وهو الذي يحبه الله تعالى من عبيده المقبلين عليه المتضرعين لجلاله، وفي الحديث القدسي الذي يرويه الإمام الترمذي يقول الله تعالى: «ابنَ آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي، ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي»، فهذا هو المعنى العميق والجوهر الصادق للعبودية التي يحبها الله من عبيده: أن ترتفع أيديهم إليه بأكفّ الرجاء، فإن الله تعالى يحبّ من عبيده السؤال والإلحاح فيه، فكل الناس ترتجي هذا المولى الكريم، وتؤمل فيه كل خير، فهو الذي طلب منها أن تدعوه ووعدها بالإجابة:
 
(وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدْعُونِىٓ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)، فالحمد لله الذي جعلنا ممّن ينطرحون على أعتابه تضرّعاً ورجاءً، فهذا هو الغنى الذي لا فقر معه، والعزّ الذي تتسابق إليه الأرواح والقلوب.
وما أروع ما اشتملت عليه تلك القصيدة الفخمة من جلائل المعاني والتي لا يسمح المقام بالوقوف عند جميعها لنكتفي بإيراد بعض أبياتها الجميلة لاستكمال الصورة وجلاء الموقف الجليل:
مقامي عند بابك يا كريما نضجّ إليك في الكُرب العِظام
ومنك الخير يُرجى يا مُغيثا يُغيث عباده غوثَ الكرام
ولولا عفوه ما دام حيٌّ برحمته ورأفته اعتصامي
وأعجبُ من تلطّفه بعبدٍ يُجاهر بالخلاف على الدوام
تبارك ذكره جودا وفضلا به نرجو السعادة في الختام.
 
Email