ربما تكون العبارة الشهيرة للممثل الراحل نهاد قلعي (حسني البورظان): «إذا أردنا أن نعرف ما يحدث في إيطاليا فعلينا أن نعرف ما يحدث في البرازيل»، هي الشرح الأبسط للعولمة!

فعلى مدى العقود الأربعة الماضية سيطر مصطلح العولمة على مختلف مجالات الحياة، وكانت الخطابات السياسية مليئة بعبارة: «العالم قرية صغيرة» للدلالة على سيطرة العولمة على الكرة الأرضية بأكملها.

ومن المعروف أنّ العولمة، التي محت الحدود الجغرافية بين الدول، أخذت مجدها في الأوساط الاقتصادية بالدرجة الأولى، نظراً لأنّ أحد أهمّ أهدافها هو مدّ سيطرة الدول العظمى والمتقدّمة اقتصادياً على الدول النامية، لفتح أسواق جديدة وامتلاك مصادر اقتصادية أكثر وفرة وأقلّ تكلفة، الأمر الذي أسفر عن نهوض الشركات العابرة للقارات، وصعود الإمبراطوريات الاقتصادية التي تحكّمت بقوت البشر على امتداد العالم، من خلال التحكّم بأسواق المواد الغذائية الرئيسة للشعوب، من قمح وأرز وسكر، وغير ذلك.

ما يقودني اليوم للحديث عن العولمة هو الإشارات الواضحة لتراجعها كنتيجة للحرب الروسية - الأوكرانية، فقد باتت العديد من الدول المتأثرة بهذه الحرب تبحث عن النجاة بنفسها، من منطلق «أنا وبعدي الطوفان»، فلم يعد مهمّاً بالنسبة لها التحالفات الاقتصادية السابقة، التي أثبتت فشلها في كثير من المواقع، بعد أن وجدت الكثير من الدول نفسها في دائرة خطر المجاعة التي تهدّد شعوبها بسبب إيقاف تصدير المواد الغذائية والأسمدة والغاز والنفط من كلّ من روسيا وأوكرانيا اللتين تعدّان من أهم الدول المصدّرة لهذه المواد.

فجرّاء هذه الحرب خفّضت منظمة التجارة العالمية توقعاتها للنمو في هذا العام بمقدار النصف تقريباً، من 4.7 % إلى %2.5، وتوقّع الخبراء أن يتراوح الارتفاع في أسعار المواد الغذائية في كثير من دول العالم، ما بين 20 - %50.

وقد بدأ شبح المجاعات يلوح في الأفق بعد أن بات سلاح الغذاء جزءاً من المواجهات بين الدول، كما يحدث في أوكرانيا، على سبيل المثال، أعلنت روسيا أن تصدير المواد الغذائية الروسية سيكون مقتصراً على الدول «الصديقة»، ومن المعروف أنّ لدى روسيا القدرة على التأثير بميزان الأمن الغذائي العالمي، نظراً لكونها الثالثة عالمياً في محصول القمح بـ77 مليون طن، والأولى عالمياً في تصدير القمح بـ37.3 مليون طن، من أصل 203 ملايين طن من صادرات القمح العالمية.

كما تعدّ روسيا وأوكرانيا مجتمعتين من أكبر مصدري القمح في العالم، فهما مسؤولتان عن نحو ثلث مبيعات القمح السنوية العالمية، كما أنهما تسيطران على 55 % من صادرات زيت عباد الشمس السنوية العالمية، و17 % من صادرات الذرة والشعير.

ورغم أن العالم كان يأمل أن يصبح القمح الهندي بديلاً للقمح الروسي، نظراً لأنّ الهند تأتي في المرتبة الثانية بعد الصين، من حيث أكبر محصول بحوالي 103 ملايين طن، إلا أن الهند أخذت قراراً بمنع التصدير للحفاظ على قوت شعبها، فقد وجدت أنّ أبناءها أولى بالخبز من أبناء الدول الأخرى.

وتسعى الهند إلى الحفاظ على أمنها الغذائي في ظلّ ما يكتنف العالم من ارتفاع جنوني للأسعار، الأمر الذي سينعكس، بدون شكّ، على شركائها التجاريين، لكونها واحدة من أرخص الموردين العالميين للقمح والأرز، فهي تصدّر الأرز إلى ما يقرب من 150 دولة، والقمح إلى 68 دولة.

وسط هذه الأزمة من صراع عسكري بين دولتين ولّد أزمات اقتصادية وغذائية على المستوى العالمي، برزت التحرّكات الأحادية للدول الراغبة بالنجاة من أتون الحرب على مختلف مستوياتها، من أجل حماية نفسها وعدم انجرافها في تيار الدمار الذي يقود إليه ارتباط لقمة الطعام بالقرار السياسي، لذلك قامت الهند بحماية شعبها على حساب الشعوب الأخرى، وتسعى كل من فنلندا والسويد للانضمام إلى حلف الناتو طلباً للحماية.

وفي وقت وُضِعت فيه ألمانيا تحت رحمة القرارات الروسية، عملت على زيادة ميزانيتها الحربية، وهي مثل جميع الدول الأوروبية تبحث عن مخرج من ورطتها في نقص المواد الأساسية التي كانت تحصل عليها من روسيا وأوكرانيا.

من التضخم إلى أزمة الطاقة إلى غول المجاعة.. كلها أزمات عالمية طفت على سطح الحرب الأخيرة، وبرزت معها ضرورة تحقيق الأمن الغذائي للدول بالقدر الممكن، فقد أصبح جليّاً أن من يمتلك الخبز يمتلك القرار السياسي، ومن يمتلك قراره السياسي يمتلك حريته واستقلاله وأمانه.

لقد عرّت هذه الحربُ العولمةَ بوصفها فكرة سعت إلى محو الهويات الوطنية للشعوب الأضعف، وكانت سلاحاً اقتصادياً وسياسياً فاعلاً بيد الدول المسيطرة، لكنها فشلت في نهاية الأمر بأن تحوّل العالم إلى قرية صغيرة، لأنّ كلّ فرد من هذه القرية بدأ بالبحث عن مهرب لنفسه، غير آبه بمن سيجرفه الطوفان من الأفراد الآخرين.