في يونيو الجاري، تحل على المصريين مناسبتان، إحداهما تعيسة، والأخرى سعيدة، ففيه تمر الذكري الخامسة والخمسون لهزيمة يونيو1967، التي نصبت منذ ذلك الوقت إسرائيل أكبر قوة عسكرية ونووية في المنطقة، بحماية دولية أمريكية وغربية.

وفيه يحتفل المصريون بالعيد التاسع لثورة الثلاثين من يونيو، حين امتلك الشعب المصري في لحظة نيرة مضيئة من تاريخه، الوعي والإرادة الموحدة، لرفض تغيير هويته الوطنية الراسخة التي تشكلت عبر العصور، من سبيكة امتزاج فريد للحضارات الفرعونية والإغريقية والقبطية والرومانية والإسلامية، حتي باتت كما وصفها مؤرخ أمريكي رمزاً لفجر الضمير الإنساني.

بشرت جماعة «الإخوان» المصريين بالبقاء لحكمهم خمسمائة عام، فتصدوا لها وأسقطوا نظامهم بعد عام واحد فقط. 365 يوماً اكتشفوا خلالها الخديعة التي أوقعتهم فيها الجماعة، نهم غير مسبوق للانفراد بالسطة والاستحواذ على الثروة، وانعدام الكفاءة، وعجز شامل عن إدارة مؤسسات الدولة، والمتاجرة بالدنيا والدين.

قد يبدو أن لا علاقة تربط بين هذين الحدثين المتناقضين، لكن الواقع أنهما مترابطان، ففي أعقاب الهزيمة، سادت مصر والمنطقة العربية حالة من الدروشة والشعوذة التي تتخفى بقناع ديني، وظهر دعاة ملأوا الفضاء العام بمزاعم أن الابتعاد عن الدين سبب عدم تحقيقنا النصر، وشاعت قصة ظهور السيدة العذراء في إحدى الكنائس وسط القاهرة.

وكان من الطبيعي أن تنتهي تلك الشعوذة إلى نتيجة تقول إن المشروع القومي لقيادة الأمة قد هزم، وإن تجربة جمال عبدالناصر الاشتراكية في الحكم قد فشلت، وإن الذي لم يجرب في إدارة البلاد بعد هو التيار الإسلامي.

وانطلق قادة جماعة الإخوان ودعاتها وكتابها في مصر ودول المنطقة، بمساحة لم تكن معهودة من قبل من السلطات الحاكمة، وبدعم دولي هذه المرة، يروجون لتلك الفكرة، ويدعون لإتاحة الفرصة كي يتقدم هؤلاء لحكم البلاد.

ولم يكن صعود جماعة الإخوان لحكم مصر سوى نتيجة منطقية لهذا المناخ الهستيري الذي ساد مصر أكثر من أربعة عقود، محمولاً بأكاذيب أسطورية عن نظافة يد جماعة الإخوان ويقظة الضمير التي تتحلى بها، وسرد مظلوميات، للتأثير في قطاعات اجتماعية واسعة، تلعب المشاعر الدينية النقية، البعيدة عن خبث الإخوان، دوراً مهماً في حياتها، فضلاً عن أن معظم تلك القطاعات قد اكتوى من الفساد الذي استشرى في مؤسسات الدولة، وحرمها من فرص للعيش الكريم، ومن القدرة على موازنة دخولها مع متطلبات حياتها اليومية.

ورغم تلك المعاناة، لم يبتلع المصريون تلك الأكاذيب طويلاً، وملأ أكثر من ثلاثين مليون مصري معظم ميادين الجمهورية، لمطالبة الجيش بمساندة مطلبهم بالدعوة إلى رحيل حكم المرشد وجماعته، الذي استهان بقدرات الشعب المصري واستخف بمشاعره، وجاءت الاستجابة في الثالث من يوليو بتعطيل الدستور القائم، وتولى رئيس المحكمة الدستورية العليا المستشار عدلي منصور إدارة شؤون البلاد لفترة انتقالية لحين انتخاب رئيس جديد، وتشكيل لجنة لتعديل الدستور، وغير ذلك من إجراءات، دشنت العهد الجديد لثورة يونيو 2013.

تسع سنوات على ثورة يونيو مليئة بكافة أنواع التحديات الداخلية والضغوط الخارجية. في كل يوم منها يختطف الإرهاب خيرة شبابها من القوى الأمنية في شبه جزيرة سيناء، ويكلف التصدي له موارد مالية كبيرة.

تسع سنوات اختلطت فيها أحزان المصريين بأفراحهم، وتصدرت تضحياتهم الجسيمة كل النجاحات التي تحققت، والأخرى التي تنتظر. طريق قصير في تاريخ الأمم ينطوي على نجاحات وإخفاقات، لكن نتائج رحلته التي قطعها مجيدة فيما أنجزت، لقد أَنقذت دولة وشعباً من مواصلة السقوط في براثن حكم ديني فاشي غشوم، غير مؤهل سوى للمتاجرة بالدين.

فترة تسعة أعوام كافية لوقفة للنقد الذاتي لمسار ثورة يونيو، والبحث الجاد المخلص عن الأسباب الداخلية لتفاقم الأزمتين الاقتصادية والسياسية. ولعل ذلك هو ما دعا الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى توجيه الدعوة لإدارة حوار وطني بين القوى السياسية والأحزاب والمنظمات الجماهيرية، والمجتمع المدني، ينتظر أن تبدأ جلساته في الشهر المقبل.

وليس هناك احتفال بالعيد التاسع لثورة يونيو أفضل من أن ينتهي الحوار السياسي المنتظر بالتوصل لمشتركات وطنية بين كل الأطراف المشاركة به، تطرح حلولاً واقعية لهاتين الأزمتين الكبيرتين، تأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الدولية والإقليمية، وتدرك أن المتحاورين في محفل وطني مسؤول، لا ساحة ملاكمة بها فائز وخاسر، فمصر وشعبها هما الفائز الوحيد إذا ما تكلل الحوار المنتظر بالنجاح.