بدأت جولة بايدن، وانتهت.. الشرق الأوسط قال كلمته، التوقيت يفرض شروطه، المنطقة تحدثت، تاريخ الزيارة فاصل، لما بعده وما قبله.يقظة عربية وعروبية أكدتها كلمات الملوك، والقادة والرؤساء والزعماء العرب، تعددت الكلمات والرسائل، لكن جميعها، انطلقت من ثوابت عربية عميقة، يقوم عليها مفهوم الدولة الوطنية.
قمة جدة، التي جمعت دول مجلس التعاون الخليجي، ومصر، والأردن والعراق، إنما هي بمثابة أشواط عربية تم قطعها في المعادلة الدولية، والعالمية في توقيت يعاد فيه تشكيل وصياغة نظام عالمي جديد.
ثمة سؤال يطرح نفسه: هل نحن أمام استدارة أمريكية جديدة نحو المنطقة العربية، وإلى أي مدى يمكن البناء عربياً على هذه الاستدارة، وكيف يساهم الإقليم العربي في صناعة عالم جديد يستجيب لتطلعات وآمال الشعوب العربية؟
ربما كانت هناك حسابات خاصة بالرئيس الأمريكي جو بايدن، قبل هذه الزيارة، وربما جاءت نصائح المحيطين به لتدفعه إلى تصحيح مسارات كانت تدور في ذهنه، سيما في ظل الظروف الدولية المغايرة، التي تشهد حرباً روسية - أوكرانية من جانب، وتحديات روسية - صينية من جانب آخر، وما بينهما من تداعيات وانعكاسات على الداخل الأمريكي، الكلام هنا كثير.
لكنني أتوقف أمام دهاء واشنطن الذي عبر عنه الرئيس بايدن في مقاله بصحيفة «واشنطن بوست»، إذ إنه حاول أن يقطع الطريق أمام أية محاولات استقطاب أخرى، وجاءت إجابته عن السؤال: لماذا أنا ذاهب إلى المملكة العربية السعودية؟ لتشمل كافة القضايا والملفات التي تهم بشكل مباشر الشرق الأوسط، قد يكون هذا المقال مناورة لفتح آفاق من شأنها تحقيق أكبر قدر من المكاسب لصالح الولايات المتحدة الأمريكية.
قرأنا ما بين سطور مقال بايدن، واستمعنا لكلماته أثناء القمة، واستطعنا الخروج بانطباعات، تعكس الواقع والظروف والحالة التي يمر بها، ساكن البيت الأبيض، وتعيشها الولايات المتحدة الأمريكية، قطعاً أن تحليل كلمات بايدن يؤكد أن هناك أزمات اقتصادية كبرى، وتحديات سياسية في مقدمتها، انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في نوفمبر المقبل، فضلاً عن التحدي الأكبر الذي يمثل له كابوساً قاسياً، وهو التحدي الروسي - الصيني، الذي بات واقعاً يتطلب مناورات استراتيجية من نوع خاص.
إذا كانت هذه قراءة للظرف التي تمر به واشنطن، ففي المقابل إننا أمام قراءة أخرى غير تقليدية للوضع العربي، قراءة مغايرة لما عرفناه عبر العصور الماضية، فالدول العربية كانت واضحة في التعبير عن مصالحها الوطنية، وقضاياها المفصلية، وملفاتها العاجلة، وحماية أمنها القومي، وصون خرائطها الوطنية من أي تلاعب محتمل، رسائل القادة والزعماء العرب، في قمة جدة، تكتب فصلاً جديداً في فلسفة السياسة العربية والتعامل مع القوى الكبرى.
هذه الفلسفة، تنطلق من تقديرات صحيحة للأزمات الإقليمية والدولية، وتؤكد أن العرب الآن، ليسوا قيد الوصفات سابقة التجهيز، وأن تفاعلهم مع الأزمات خلال عقد مضى، بداية مما يسمى بـ«الربيع العربي»، وصولاً إلى الأزمة الروسية - الأوكرانية، وعبوراً بجائحة كورونا، إنما هو قدرة على صياغة قاموس سياسي خارج الصندوق، مفرداته قوامها الوحدة العربية، والتماسك، وتطابق الرؤى.
وتعميق وتوسيع التعاون البيني في مختلف المجالات، سيما الاقتصادية والاستثمارية، والحرص الشديد على تحقيق معادلة الاستقلال في القرار الوطني، وتأمين الاكتفاء الذاتي من الضرورات الحياتية التي دائماً ما كانت يتم استغلالها بالضغط على صانع القرار السياسي.
هذه الشواهد العربية، أدركها الغرب جيداً، وبدأ يتعامل معها وفق مستجداتها التي تحكمها نظرية الواقعية السياسية، وهذا ما انعكس في تحليل محتوى خطاب الرئيس الأمريكي، فقد استخدم مفردات وتعبيرات أكثر واقعية، مما كان في عقود سابقة، فالمؤكد أن تعاطي العالم ورؤيته للإقليم العربي سوف تنطلق في الفترة المقبلة من صورة نمطية جديدة قوامها أن العالم العربي بات «محور استقرار» العالم.
إذاً، نحن أمام مرحلة جديدة للمنطقة، تفرض أدوات وأساليب جديدة للتعامل معها، وبالتالي فعلينا نحن العرب استثمار هذه المرحلة، والبناء على ما تم تحقيقه، والعمل على تعميق الشراكة العربية، وتعظيم القيمة المضافة من الأوراق التي لدينا، سواء في ملف الطاقة أو كموقع «جيو اقتصادي»، مهم في تسهيل سلاسل الإمداد عالمياً..
والتفاوض من أرضية صلبة وقوية، حول القضايا والملفات المركزية، بالنسبة للمنطقة مثل القضية الفلسطينية، والأمن القومي العربي، ومواجهة التنظيمات الإرهابية والميليشيات والمرتزقة، والتدخلات الأجنبية في الشؤون الداخلية للبلاد، وغيرها من القضايا الوجودية لمستقبل الدول العربية.
أخيراً: أرى أن تفاصيل قمة جدة، أكدت أن أمام العرب فرصة تاريخية غير تقليدية لكتابة المستقبل.
*رئيس تحرير مجلة «الأهرام العربي»