يؤكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أنه قائد أوروبي من طراز خاص ليس فقط لإصراره على التواصل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بل بطرح أفكار وأطروحات عملية، لإنهاء الحرب الروسية- الأوكرانية.
آخر أفكار الرئيس الفرنسي هي حديثة حول ضرورة منح روسيا «ضمانات أمنية»، بهدف تشجع الكرملين على الانخراط في تسوية سياسية، تقوم على معيار «الأمن المتبادل» بين روسيا وجيرانها الأوروبيين، وهي رؤية تتفق مع ما قاله ماكرون من قبل: إن روسيا دولة «أوروبية بامتياز»، فكيف يمكن ترجمة هذه الرؤية إلى واقع يحفظ الأمن والاستقرار في أوربا والعالم؟
الاستعلاء
لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يجري الحديث عن «ضمانات أمنية» غربية لروسيا، فخلال الحرب الباردة كانت المخاوف كلها تأتي من روسيا، وكانت الصورة النمطية الغربية عن روسيا أنها هي الطرف الذي يعتدي، ولهذا كانت الضمانات الأمنية مطلوبة دائماً لجيران روسيا الأوروبيين وليس لروسيا نفسها، لكن كان هناك «تعهدات» لروسيا لا ترقى لمستوى «الضمانات الأمنية»، منها تعهد الغرب في 26 مارس عام 1991 بعدم توسع الناتو شرق «نهر إلبه»، وفق صيغة 4+2 التي جمعت روسيا والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا مع كل من ألمانيا الشرقية والغربية، بمدينة بون الألمانية.
لم تلتزم الولايات المتحدة بهذه التعهدات، وقامت عام 1997 بضم 3 دول لحلف الناتو من شرق أوروبا هي بولندا والتشيك والمجر، ومنذ تولى بوتين الحكم في 31 ديسمبر 1999 ضم الناتو 13 دولة من وسط وشرق أوروبا للحلف، وهو ما دفع موسكو لعدم الثقة بوعود الولايات المتحدة وحلف الناتو.
اليوم يضم «الناتو» 32 دولة، بعد أن كانت 16 فقط ليلة سقوط الاتحاد السوفييتي، وهو ما يجعل حديث ماكرون عن «ضمانات أمنية» غربية لموسكو الضوء الوحيد في نهاية نفق طويل من عدم الثقة بين الطرفين، لكن «الاستعلاء الغربي» يقف حائلاً في وجه رغبة باريس في منح روسيا الضمانات الأمنية، ففي واشنطن على سبيل المثال لا ينظرون لروسيا كونها دولة عظمى تستحق أن تطلب «ضمانات أمنية» من «الناتو» باعتباره أقوى حلف عسكري، بل ينشرون في الصحافة الأمريكية مقالات ورسومات كاريكاتيرية، تصور روسيا باعتبارها «دولة نامية» من العالم الثاني، كما تصور كثير من الرسومات في بريطانيا والولايات المتحدة الدولة الروسية وكأنها «محطة بنزين» ليس فيها إلا النفط والغاز واليورانيوم والفحم.
هذا «الاستعلاء» يقود مباشرة إلى «استحلال» تمدد «الناتو» لكل الدول التي كانت تابعة في السابق للاتحاد السوفييتي، وعلى مرمى حجر من المدن الكبيرة في الجزء الغربي من روسيا.
الاعتراف
تبدأ «الضمانات الأمنية» لموسكو باعتراف «الناتو» بأن روسيا دولة أوروبية، لها قيم تختلف عن القيم الغربية، ويجب احترام تلك القيم وعدم محاربتها، وأن روسيا أحد أهم مرتكزات الاستقرار في أوروبا كما كانت طوال 4 قرون سابقة، كما يتوجب على الغرب التعهد بعدم تأليب الشعوب القريبة من روسيا ضد موسكو، كما حدث طوال العقدين الماضيين من دعم لما يسمى بـ«الثورات الملونة»، حيث قاد الدعم الغربي لـ«الثورة الوردية» في جورجيا عام 2003 للحرب الروسية الجورجية، وانفصال جمهوريتي أبخازيا وأوسيتا الجنوبية عن جورجيا، كما أن الوضع الراهن في أوكرانيا نتيجة لـ«الثورة البرتقالية» عام 2005، والصراع بين المواليين لروسيا، والداعمين للانضمام للاتحاد الأوروبي، كما يمكن للغرب أن يتعهد بعدم ضم أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا، وبعض دول البلقان لـ«الناتو».
المؤكد أن تقديم مثل هذه «الضمانات الأمنية» لموسكو لن يقود فقط لحل الصراع في أوكرانيا، بل سوف يفتح عهداً جديداً في العلاقات الأوروبية والأمريكية مع روسيا.