ما أن يحل شهر يناير، حتى تتداعى ذكريات بعض أحداثه الباعثة على الفرح، برغم ما أصابنا في الشهر نفسه من أحزان مفرطة، تربع على قمتها كابوس ما سمي بالربيع العربي، الذي أحال بعض دول المنطقة إلى أشلاء ممزقة، ومنح الخارج الدور المؤثر في تحديد مصائرها، ورفع من وتيرة الصراعات المذهبية والطائفية والعرقية بين شعوبها.

ولأن طبيعة الإنسان الفطرية تذهب به عادة إلى ما يسعده، وتأنف مما يشقيه، فقد قررت أن انبسط..

نعم انبسط، وهي كلمة عربية فصيحة من انبسط انبساطاً كما تقول قواميس اللغة، حتى لا يشرع الزملاء المصححون أقلامهم.. قاطعت نشرات الأخبار، التي حاصرتنا بمشاهد الحرائق وضحايا التسونامي، والزلازل والأوبئة والحروب، وباتت الكوارث الطبيعية والسياسية في أخبارها أكثر من الهم على القلب.

فضلاً عن أن معظم التقارير الإخبارية التي تبثها لا تخلو من انتقائية، ولا تكف عن التشويه المتعمد للحقائق، خاصة إذا ما كان الأمر يتعلق بمنطقتنا.

وبالسلطات الدولية وقراراتها، والاحتكارات التجارية في الغذاء والدواء وبمدى المسؤولية الدولية عن رفع حرارة الكوكب والاحتباس الحراري، والهيمنة السياسية للغرب الأمريكي والأوروبي، على القرار الدولي.

نجحت؟ بالقطع لا، باءت محاولتي بعد فترة وجيزة بالفشل الذريع.

ليس فقط لأن المحاولة تجاهلت الحقائق المحيطة بها، وطبيعة العمل المهني والحزبي، الذي تتم ممارسته في أحيان كثيرة عبر تطبيق «الواتس آب»، وأمسى تطبيقاً مقيماً في حياتنا اليومية، يقتحمها اقتحاماً، بل أيضاً لأن التوق لمشاركة شعوب الأرض أفراحها وأحزانها غلاب.

في كتابه «الوصول إلى السعادة» يقول «برتراند راسل» إن الشخص الحكيم هو من يسعد بقدر ما تسمح له الظروف بذلك، فإذا وجد تأمل الكون مؤلماً له أكثر مما ينبغي، انصرف لتأمل شيء آخر.

امتثلت لرأي «راسل» وقررت أن أنصرف وأكون حكيمة وانبسط. وهذه الأيام من شهر يناير، يحتفل الناس في بلادي كما هي العادة السنوية، بمناسبات عزيزة على كل قلوب أحرار العرب والعالم:

العيد الخامس بعد المئة لمولد الزعيم «جمال عبد الناصر» والذكرى الثالثة والستون لوضع حجر الأساس لبناء السد العالي ومرور اثنين وخمسين عاماً على بدء تشغيله.

في مقر حزب التجمع وسط القاهرة، بدأت الاحتفالية الفنية الشعرية والغنائية، بأفراح يناير بفيلم تسجيلي يعيد إلينا لحظات المجد في تاريخنا المعاصر:

خطاب عبد الناصر في الاسكندرية وهو يعلن تأميم الشركة العالمية لقناة السويس شركة مساهمة مصرية. وخطابه في صحن جامع الأزهر أثناء العدوان الثلاثي ويؤكد فيه أن مصر ستقاتل ولن تستسلم لعدوان الظلم والاستعمار.

ومشاهد من الاستقبال الشعبي الأسطوري لأهالي أسوان للزعيم السوفييتي «نيكتا خروشوف» امتناناً لدعم بلاده تمويل بناء السد، بالمال والخبراء، ومد الجيش المصري بالسلاح، بعد أن تراجعت الولايات المتحدة وحلفاؤها عن الأمرين معاً، وسحبت قرضاً من مصر بمبلغ 56 مليون دولار، حين رفض جمال عبد الناصر الامتثال لشروطها المجحفة.

ومن قبل هذا وبعده لا ينسى المصريون أبداً الإنذار الشهير للجنرال السوفييتي «بولجانين» ضد دول العدوان الثلاثي، الذي شكل دعماً دولياً هائلاً للمقاومة الشعبية الباسلة له في مدينة بورسعيد، وعجل بإنهاء الحرب وانسحاب الدول الغازية.

كان «عبد الناصر قد اصطحب خروشوف معه ليدشنا معاً بدء العمل في المرحلة الأولى لبناء السد العالي، وظهر معهما في خلفية المشهد الرئيسان العراقي عبد السلام عارف واليمني عبد الله السلال، لكي يقدمهما للحليف الدولي القوي، المساند للمصالح العربية والمعادي لمعسكر الاستعمار العالمي.

ليلة مبهجة بحق تجلي الروح، وترفع المعنويات لعنان السماء، وتؤكد نظرية «راسل» أن الفرح يجلب السعادة، وأن الوصول إليه رهن بإرادة الإنسان.

لكن فرح تلك الليلة شارك في صنعه كذلك استعادة مشاهد الإرادة السياسية الواضحة الهدف لدى عبدالناصر، التي صنعت من معركة بناء السد العالي رمزاً للتحرر الوطني في مصر والمنطقة العربية والعالم، وآمنت أن الاستقلال الاقتصادي هو ما يمهد الطريق نحو الاستقلال الوطني والسياسي ويحميه.

وصف المؤرخ «محمد أنيس» عبد الناصر، أنه في قيادته لتلك المعركة «تأبط التاريخ» أي أنه عرف كيف وأين ومتي يسير، وفي أي اتجاه.

وكان من نتيجة ذلك أن منحت قيادته لنا في تلك المعركة الملهمة، شعوراً بالزهو والكرامة الإنسانية، فضلاً عن إيمان راسخ أن الدول الصغيرة، مهما كان ضعف إمكانياتها، قادرة بوحدة الشعور التضامني الجمعي، وبقوة الإرادة المستقلة والثقة بالنفس، أن تفشل مؤامرات أعدائها.

وما كادت الاحتفالية تنتهي حتى أرسل لي صديق من المشاركين بها صورة البطاقة الشخصية للرئيس جمال عبد الناصر، ليتبين منها أن يوم مولده هو 16 يناير وليس 15 يناير كما هو شائع أليست هذه مفاجأة سارة تدعو بدورها للانبساط؟

* رئيس تحرير الأهالي المصرية