ثمة سؤال مقلق بات يتردد بقوة بين مسؤولي الحكومات، وبل أيضاً السكان، في الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي، ألا وهو: هل بمقدور الاقتصاد الأوروبي أن يحتفظ بتنافسيته عالمياً في خضم التحديات الهائلة المتعددة التي يواجهها في الوقت الراهن؟ وتتطلب الإجابة عن هذا السؤال تحليلاً متعمقاً يستند إلى حقائق.

دعونا لا ننسى في هذا السياق حقيقة مهمة، وهي أن اقتصاد أوروبا قد أظهر خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة قدراً كبيراً من المرونة والعودة بعد ظروف صعبة، وهو ما حدث عندما استطاع أن يتجاوز اقتصاد القارة العجوز التداعيات الاقتصادية الناجمة عن تفشي جائحة «كوفيد 19»، وذلك بفضل تضامن دول القارة وسرعة التنسيق فيما بينها لمواجهة الجائحة. وها نحن اليوم نتحد مجدداً لنواجه التأثيرات المدمرة التي خلفتها الأزمة الروسية الأوكرانية على اقتصادنا. ولكن هذه الأزمة لم تنته بعد، وما زال أهم تأثيرين سلبيين ناجمين عنها، وهما ارتفاع أسعار الطاقة والتضخم، مستمران ويضربان اقتصاد قارتنا بلا هوادة.

إننا نعيش الآن فترة ونواجه تحديات قاسية بسبب هذين التأثيرين. ويعد قطاع الصناعة هو الأكثر تضرراً من هذه التحديات بين كل القطاعات الاقتصادية الأخرى في أوروبا، ذلك أن التأثيرين يطالان سلاسل الإمداد والتوريد، الأمر الذي يؤدي في نهاية الأمر إلى تعطيل النشاط الصناعي في أوروبا، والذي يحتاج أصلاً إلى المزيد من التحول صوب مستقبل أكثر رقمنة وكذلك أكثر اخضراراً كي يبقى في مصاف الأنشطة الصناعية المتقدمة عالمياً، بصحبة نظرائه الأمريكي، الروسي، الكندي، الأسترالي، الصيني والياباني. وكما لو كانت كل هذه التحديات لا تكفي قطاع الصناعة الأوروبي، لتأتي الولايات المتحدة الأمريكية لتفرض عليه تحدياً جديداً يتمثل في «قانون خفض التضخم»، والذي وقعه الرئيس الأمريكي، جو بايدن، وأقره الكونغرس في أغسطس الماضي، بهدف كبح جماح التضخم من خلال تقليل العجز.

ومن المؤكد يقيناً أن واشنطن لم تتبنى «قانون خفض التضخم» بقصد الإضرار بالصناعة الأوروبية، ولكن التزامها بتطبيقه وتفعيل بنوده ومضيها قدماً في هذا الطريق سيؤدي بالضرورة إلى ذلك الإضرار، ذلك أن القانون يعتمد بالأساس في مكافحته للتضخم على خفض أسعار الأدوية، والاستثمار في إنتاج الطاقة المحلية مع تعزيز الطاقة النظيفة. وتصب كل هذه الركائز الثلاث بالضرورة في اعتماد واشنطن على صناعاتها بصورة أكبر والحد من اعتمادها على صناعات القارة الأوروبية. وبتعبير آخر، أن تفقد القاعدة الصناعية لدول الاتحاد الأوروبي ميزتها التنافسية الراهنة في السوق الأمريكية.

استفز «قانون خفض التضخم» مشاعر بعض القيادات المسؤولة في الاتحاد الأوروبي وأثار النزعة القومية في صدورهم. وعليه، انطلقت أصواتهم تطالب الاتحاد بتبني قانون مماثل يحمي اقتصادات دول الاتحاد ويعزز تنافسية صناعاتها في مواجهة الصناعة الأمريكية. ولكن مهلاً، على أولئك المنادين بالتعامل مع واشنطن بمبدأ «واحدة بواحدة» أن يتمهلوا ويتفكروا قليلاً، وحينئذٍ سيدركون سريعاً أن تطبيق مبدأ «العين بالعين» مع الولايات المتحدة في الوقت الراهن يهدد بجلب أضرار من صنع أيادينا على قطاعنا الاقتصادي في أوروبا، بل اقتصاداتنا ككل.

لا يجب أن ننساق وراء الدعاوى الانتقامية الهوجاء التي ربما تفقدنا السوق الأمريكية بأسرع مما نخشى من «قانون خفض التضخم» أن يفعل. وعلاوة على ذلك، فإن مبدأ «واحدة بواحدة» سيضر بمبدأ المنافسة العادلة مع الصناعات الأمريكية، وسيدخلنا في دوامة مرهقة من العزلة والنزاعات التجارية التي لا قبل لنا - كأوروبيين - بتحملها في هذه الأوقات العصيبة أصلاً.

ويتعين علينا بدلاً من ذلك أن نواجه «قانون خفض التضخم» بتحرك أوروبي مشترك يتمثل في خطة صناعية أوروبية تستهدف تطوير التقنيات النظيفة، إيجاد المزيد من مصادر الطاقة البديلة وتعزيز القدرات الرقمية. ويجب أن تستند هذه الخطة إلى أربعة أركان، وهي: بيئة الأعمال، التمويل، المهارات، والتجارة. ولقد بدأنا نتحرك بالفعل على الجبهات الأربع، وعلى نحو متسارع. فعلى سبيل المثال، رصد الاتحاد الأوروبي أخيراً بضع مئات الآلاف من اليوروهات لتطوير قاعدتنا وبنيتنا التحتية الصناعية، من خلال تعزيز مرونتها وقدرتها على التعافي من أي تداعيات لأي أزمة أخرى بحجم «كوفيد 19» أو الأزمة الروسية الأوكرانية. كما ستقترح «المفوضية الأوروبية» قريباً صندوقاً يدعم السيادة الأوروبية في قطاع الصناعة من خلال دعم الأبحاث، الابتكار والمشروعات الصناعية الاستراتيجية في القارة العجوز.

ربما يعيش الاتحاد الأوروبي حالياً أوقاتاً عصيبة ويواجه خيارات صعبة. ولكننا على الرغم من كل ذلك، لدينا ما يكفي من الأسباب التي تجعلنا محتفظين بثقتنا في قوة سوقنا وقدرتها على التجاوب مع الظروف الراهنة وعلى اجتيازها.

 

* المفوض الأوروبي للاستقرار المالي والخدمات المالية واتحاد أسواق المال - صحيفة «فاينينشال تايمز»

ترجمة بتصرف: سيد صالح