من الصعب جداً وصف الحرب الدائرة منذ ما يقارب السنة بين روسيا وأوكرانيا بصراع محدود بين دولتين جارتين بينهما حدود طويلة مشتركة، ومن الصعب كذلك تقبل ما يرد في وسائل الإعلام حول أسباب اندلاعها مثل الخلاف حول عائدية بعض القطاعات الأوكرانية لروسيا أواحتضان كييف نشاطات مخابراتية غربية معادية لروسيا أو ظهور حركات قومية متشددة داخل أوكرانيا معادية للأقلية الروسية وثقافتها ولغتها.
فرغم أن أياً من هذه الأسباب قد يصلح أن يكون فتيلاً مفجراً للصراع الدائر بين الدولتين منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، إلا أن ثمة أبعاداً أخرى لهذه الحرب تفوق كل ذلك بكثير. ولكي يأخذ الموضوع أبعاده الحقيقية ينبغي الاستعانة بمحاور أكثر عمقاً في مدلولاتها السياسية وسياقاتها التاريخية تختص بالعلاقات بين روسيا وأوروبا التي تمثل الغرب بفكره وتقاليده.
هذه حرب تأخر حدوثها بين روسيا التي تنهض من ركام الانحطاط بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وبين الناتو الذي يمثل الغرب الذي تسعى زعيمته الولايات المتحدة البقاء قوة عظمى وحيدة في هذا العالم.
لم يكن التضاد الأيديولوجي بين الاتحاد السوفييتي السابق والغرب وحده من أشعل الحرب الباردة وأدامها أكثر من نصف قرن وأطلق سباق التسلح خلالها، فسقوط الاتحاد السوفييتي قد خفف إلى حد كبير من مخاطر استمرار ذلك الصراع، وهو ما يتفهمه المطلعون على تاريخ الصراعات السياسية الكبيرة وجذورها الثقافية والتراثية.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن روسيا سواء كانت قيصرية أو سوفيتية أو بوتينية، تبقى من حيث المبدأ كياناً سياسياً متميزاً في تاريخه وثقافته من الصعب أن ينتمي إلى أية منظومة فكرية أو سياسية تضعف من دوره في رسم معالم السياسة الدولية أو تُفقده ميزة القيادة في كل من أوروبا وآسيا حيث امتداد حضوره الجغرافي.
في الواقع، لا نتطرق لجديد حين نقول: إن لأحداث الماضي حضوراً بشكل ما في ثقافات الحاضر على مستوى السلوك الفردي أو مستوى ممارسات الدول سياسياً، فلدول الغرب الرئيسية الأربعة في حلف الناتو تاريخ حافل في العداء لروسيا وهي حسب دورها زمنياً في الصدام معها: فرنسا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة، تاريخ غائرة أحداثه في ذاكرة شعوبها وفي ذاكرة شعب روسيا.
فقد أخفقت الحملة الفرنسية بقيادة نابليون في ضم روسيا إلى الدول التي أخضعتها لهيمنتها في معظم أوروبا، كما فشلت بريطانيا الدولة الأكثر عداء لثورة أكتوبر الروسية في النيل من الدولة السوفيتية الوليدة ونظامها الاشتراكي عن طريق دعمها لما عرف آنذاك بالجيش الأبيض، وأيضاً عجزت ألمانيا الهتلرية في إسقاط الاتحاد السوفييتي بعد أن وصلت جيوشها إلى حدود العاصمة الروسية موسكو في الحرب العالمية الثانية، وها هي الولايات المتحدة تشهد فشل مساعيها في إبقاء روسيا في حالة الانحطاط التي شهدتها عقب انهيار الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينيات القرن المنصرم.
كانت هناك وبشكل دائم غيوم تُلبد الساحة السياسية الدولية جراء توترات هنا أو هناك، إلا أننا صدمنا بما يتجاوز كل ذلك منذ عام 2014 حين ضمت روسيا شبه جزيرة القرم إليها باعتبارها جزءاً من أراضيها،كما قالت، فيما قابل الغرب والكثير من دول العالم بالرفض والاستنكار لهذه الخطوة.
وها نحن نشهد منذ ما يقرب السنة تداعيات ذلك الحدث الخطير في إعلان روسيا ما وصفاه بالعملية العسكرية في أوكرانيا، وهي سرعان ما أبانت تداعياتها على مستوى أوسع كثيراً من ساحاتها سياسياً وأمنياً واقتصادياً على أوروبا والعالم أجمع.
من الواضح أن الحرب في أوكرانيا تشهد تصعيداً خطيراً، إذ تستمر الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو في رفع السقف النوعي للسلاح الذي تقدمه لأوكرانيا ورفع سقف التخصيصات المالية لدعمها، فيما تستمر روسيا من جانبها في رفع سقف الأهداف التي تختارها في أوكرانيا ما يزيد من حدة الأزمة ويضاعف من القلق على تراجع فرص التهدئة.
هناك مخاطر جدية من توسع المواجهة غير المباشرة بين روسيا والناتو في الحرب الأوكرانية والقلق من تحولها تدريجياً إلى مواجهة مباشرة، فالصراع المسلح بين قوى نووية يمكن أن يتحول إلى صراع نووي. ويرى باحثون من معهد استوكهولم الدولي لبحوث السلام بأن خطر حدوث تصعيد نووي هو الآن في أعلى مستوياته منذ انتهاء الحرب الباردة ويتوقعون انطلاق سباق تسلح جديد وأن عدد الأسلحة النووية في العالم سيرتفع في العقد المقبل بعد ما يزيد على الثلاثين سنة من التراجع.
* كاتب عراقي