الهوية والانفتاح في الإمارات

ت + ت - الحجم الطبيعي

قد يتساءل بعضهم عن ماهية الهوية وماذا تعني لأهل الإمارات قديماً وحديثاً، وهل يتضارب مفهوم الحفاظ على الهوية مع فكرة التسامح والانفتاح وتقبل الآخر، الموجودة في المنطقة؟ بعضهم يعتقد أن الحفاظ على الهوية يتطلب وقفة حازمة ضد الانفتاح والتغيير لما لهما من تأثير سلبي في الهوية، وبعض آخر يرى أنه لا تضارب بين هذه المفاهيم، إذ يمكن التوفيق بينها جميعاً، الأمر الذي يخدم المصالح الوطنية.

وفي واقع الأمر، فإن مفاهيم الهوية والانفتاح والتسامح اكتسبت جميعها أهمية كبيرة وبخاصة في الظروف الحالية التي يعيشها مجتمع الإمارات، إذ تتعدد رؤى متنوعة عن العالمية وضرورة الانفتاح على الآخر. وفي الوقت نفسه نشطت أفكار جديدة عن التمسك بهوية المجتمع والأخذ في الحسبان المصالح الإقليمية والقطرية، الأمر الذي دفع إلى السطح آراء مختلطة، بل متضاربة عن مفهوم الهوية والانفتاح، فكيف نجحت الإمارات في رسم استراتيجية مختلفة تقيها الانجراف في هاوية الآراء الضيقة وتجعلها مجتمعاً منفتحاً، تتوق للعيش فيه كل الأطياف والأعراق والهويات؟

كان لوقوع منطقة الإمارات ما بين شبه الجزيرة الهندية وبلاد الرافدين، ونظراً لتفاعل أهل الإمارات طوال قرون مع شعوب متعددة الأجناس والثقافات، كما كان لممارستهم التجارة مع شعوب الجوار، أثر في انفتاحهم وتسامحهم منذ القدم. والثابت أنهم لم يمارسوا التمييز العنصري أو التعصب الديني مع أي جنس، فلم يؤدِ نمط عيشهم في الانغلاق على الذات وعزل الآخر أو الانعزال عنه بسبب الجنس أو اللون أو العقيدة. وانعكس هذا الوضع على تعامل أهل الإمارات، ليس فقط مع الآخر المقيم بينهم أو جيرانهم، وإنما حتى على ممارساتهم اليومية، التي تدل على احترام الذات الإنسانية، حتى مع أبسط الفئات.

وفي الإمارات كما في الجزيرة العربية، كان هناك جو من التفاعلات الفكرية والحوارات بين مختلف الآراء، كما كان هناك مجال لبروز المفكرين ممن يمتلكون خواصّ ذاتية أهلتهم للبروز على الرغم من اختلاف ألسنتهم وألوانهم، حيث دعا القرآن الكريم إلى التفاعل الإيجابي بين العرب وشعوب المنطقة، ما أسهم في دخول الناس إلى الإسلام منذ بدايات الرسالة.

وقد عاش في كنف أهل الإمارات أصحاب عقائد مختلفة، وكان هناك ضمان لحرياتهم المدنية الدينية، فقد توفر الأمان لأصحاب تلك العقائد وأملاكهم وأموالهم، ولم يكن مجال للكراهية ضد أصحاب العقائد الأخرى، فقد جاء الإسلام حرباً على العصبية القبلية والتفاخر بالأنساب، عادّاً الانتماء الحضاري وليس النسب جذر العروبة، فليست العربية بأب أو أم، وإنما العربية اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي.

لغوياً، لم تكن العربية مجرد لغة ذات قرابة باللغات الأخرى السائدة في المنطقة، ولم تكن فقط لغة القرآن الكريم، ولها قداسة الدين فحسب، بل كانت لغة الإبداع والتعبير الفني والأدبي السائد في المنطقة، فكانت اللغة العربية من جميع الوجوه في مركز لا تستطيع أن تنافسها فيه أي من اللغات في المنطقة، ولهذا فعلى الرغم من تعدد اللغات في الإمارات، إلا أن اللغة العربية ظلت سيدة الموقف، وكانت لغة المعاملات التجارية والتواصل الاجتماعي، كما كانت لغة الثقافة الشعبية والفلسفة الفكرية المستلهمة من الدين والبيئة الصحراوية.

المزيج الحضاري والبشري الذي ظهر في الإمارات هو في الواقع ما جعل الدولة مختلفة عن غيرها من البلدان، فقد أدت العوامل الحضارية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي شهدتها المنطقة إلى ظهور مستجدات عدة كان لها أكبر الأثر في التفاعل والتغير والاندماج التي شهدتها الإمارات في العقود الأخيرة، كما كان لها دور كبير في النمو الاقتصادي الذي شهدته الدولة، فقد رسمت تلك العوامل الخطوط العريضة لتطور الدولة، وغدت مع الزمن من مكونات المجتمع الإماراتي، الأمر الذي دعا الإمارات إلى تجاوز الإطار التقليدي للنمو في المنطقة، والانطلاق نحو عالم مختلف تماماً عن المحيط، وكان تأثير هذا العامل كبيراً لدرجة جعلت من الإمارات مجتمعاً نموذجياً مغايراً، وفي الوقت نفسه هو ما جعلها مجتمعاً محافظاً على هوية تجمع بين الأصالة والحداثة.

 

* جامعة الإمارات

Email