تمثل محاور النقاش التي تركز عليها «القمة العالمية للحكومات 2023»، بدرجة كبيرة وفي جزء كبير منها، امتداداً للمحاور التي تبنتها نسخة «مارس 2022» السابقة ما يعكس تبلور «رؤية استراتيجية» طويلة الأمد لدى إدارة القمة في شأن كيفية التعامل مع تحديات ما يمكننا وصفه بحقبة الأزمات العالمية، التي يواجه تداعياتها ليس النظام الدولي القائم وقواه الفاعلة فقط، ولكن الجنس البشري عموماً أيضاً، ومن ثم فإن تحليل هذه المحاور سيكون كاشفاً لأبعاد هذه الرؤية الاستراتيجية، ومعيناً على تقييم مردودها المحتمل في مواجهة الأزمات العالمية المتصاعدة.

ويبرز على رأس هذه المحاور «تسريع التنمية والحوكمة»، الذي يمثل امتداداً لمحور السياسات التي يمكنها أن تقود إلى التطور الحكومي والتنمية، الذي عنيت به القمة السابقة. وفيما يعنى هذا المحور بتمكين الحكومات عبر تطوير نماذج وسياسات وتقنيات مبتكرة تعزز الارتقاء بالخدمات الحكومية، أو تحديداً بما يعرفه حقل النظم السياسية بالوظيفة الإشباعية للحكومة؛ فإن الاهتمام بهذه المسألة ينبع في الأرجح من رؤية تتجاوز حدود الحفاظ على الاستقرار السياسي للأنظمة والحكومات، وتمتد إلى غايات أوسع نطاقاً تتعلق بتقليص فرص انزلاق العالم إلى مزيد من الصراعات، وبتعزيز الأمن الإنساني.

إن تمكين الحكومات وتعزيز قدرتها الإشباعية يتيح لها تنويع خياراتها السياسية الإيجابية في مواجهة أي أزمات قائمة أو محتملة مستقبلاً، مثل أي خلل أو انقطاع في سلاسل الإمداد، أو مواجهة أي أزمات مفاجئة، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى: خفض نزوع الحكومة إلى الانخراط في صراعات خارجية على الموارد، أو الاضطرار إلى تبنّي سياسات قمعية داخلياً، وتقليص فرص الاضطراب المجتمعي الذي بات عامل تهديد إضافياً عالمي الطابع في ظل تغذيته للتطرف، أو مفاقمته ظواهر، مثل الهجرة، والتفاعل غير المتوازن بين المجموعات البشرية.

وبقدر ما يعد سؤال التمكين الابتكاري للحكومات سؤال استعداد للمستقبل؛ فإن طرحه على أجندة «القمة العالمية للحكومات» يؤكد رهان الدولة على أن تجعله رهاناً للتكامل والسلام العالميين. إن نجاح القمة في إيجاد إطار عالمي للتعاون والتنسيق متعدد الأطراف في ما يخص تمكين الحكومات سيمثل بكل تأكيد عاملاً إضافياً مهماً لتعزيز الاعتماد المتبادل بين الدول، وبناء الثقة في ما بينها. ومن شأن هذا الإطار أن يعزز قناعة عالمية متبادلة بأن خيار الحكومات ورهانها الأول سيكون تعزيز القدرة الإيجابية على مواجهة المتطلبات والضغوط، لا الاندفاع إلى علاقات صراعية ومباريات صفرية مع الآخر.

ويتكامل مع المحور الثاني ويعززه، المحور المتعلق بمستقبل المجتمعات والرعاية الصحية؛ ويُعنى هذا المحور، بحسب إدارة القمة، بدراسة أثر العولمة في المجتمعات الافتراضية وقضايا بناء النماذج الأخلاقية، إضافة إلى حالة أنظمة الرعاية الصحية، ومن ذلك حالة الصحة العقلية. وإذ تنصرف هذه القضايا جميعها لتناقش أثر التحولات التي فرضتها العولمة في الفرد وفي عمليات تشكله المعرفي والأخلاقي والصحي؛ فإن ذلك يعد مكوناً رئيساً ومتكاملاً مع الخطط الحكومية المعنية بتطوير سياسات فاعلة لحفز التنمية، والحفاظ على الاستقرار المجتمعي.

ولم يعد خافياً الأثر الخطر الذي يلقيه التدفق الضخم لمعلومات غير مدققة، واتجاهات معرفية وأخلاقية غير متسقة في ما بينها أو مع السياقات الاجتماعية المستقبلة؛ في إحداث اضطراب نفسي واجتماعي واسع النطاق وخطِر. والمتوقع أن تشهد المرحلة المقبلة، في ضوء التطورات التقنية غير المسبوقة والمتسارعة، تزايداً في ظاهرة التدفق المعرفي والمعلوماتي والقيمي، وتنوعاً غير مسبوق في أدواتها ومن ثم سيكون أحد أبرز مقومات الكفاءة التنموية والاستقرار السياسي ومكافحة بواعث التطرف والاضطراب، التعاطي الإيجابي مع تداعيات هذه التطورات التقنية على المستوى الفردي.

إن عناية القمة بهذه القضايا تؤكد من جهة إدراكها أن السياسات التنموية الفاعلة ترتكز على مقومين متكاملين وهما الحكومة والفرد؛ وأن إغفال أحدهما سيؤدي إلى خلل يقوض أي تحسين يتم إنجازه على مستوى إحدى الركيزتين بشكل منفرد؛ كما يؤكد من جهة أخرى أن الرهان النهائي تعزيز قدرات الفرد وازدهاره وأمنه.

 

* المدير العام لمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية