بقدر ما كان التقدم العلمي هو المحرك الرئيسي للتحولات الكبرى في تاريخ الإنسانية، ولتحسين ظروف الحياة على كوكب الأرض، عبر الحقب التاريخية المختلفة، فإنه أدى إلى ظهور بعض التحديات والتداعيات السلبية، التي تؤثر بدرجات متفاوتة في حياة البشر، مثل تزايد معدلات التلوث، وتسارع ظواهر التغير المناخي، أو بروز مخاطر استخدامات الطاقة النووية، أو ارتفاع القدرة التدميرية للأسلحة. ولم يكن الحل في أي لحظة هو إعاقة مسارات التقدم العلمي، بل كان الحل دوماً هو السعي إلى تعزيز هذه المسارات، وأن يقدم العلم بنفسه حلاً لأي مشكلات عرضية نتجت من سيرورة تطوره.

وفيما يعد الاستثمار في التطوير العلمي بمختلف أبعاده نهجاً استراتيجياً متواصلاً لدولة الإمارات العربية المتحدة، فإن العناية به تبدو مركزية ضمن أجندة «القمة العالمية للحكومات »، إذ يعد مكوناً رئيسياً متضمناً في كل محاور القمة، لكنه يبدو أكثر بروزاً في المحاور المتعلقة ب «استكشاف آفاق العلم الجديدة »، و «التعليم والوظائف بصفتهما أولوية حكومية »، و «تصميم المدن العالمية واستدامتها .»

وتعكس عناية القمة بتعزيز فرص التطوير العلمي، وكفاءة توظيف مخرجاته في مجالات رئيسية للعمل الحكومي، حقيقة كونه رهاناً رئيسياً لتجاوز حلقات الأزمات المتصاعدة والمتعاقبة، التي تكون بشكل

متزايد المشهد الدولي الراهن.

وعلى الرغم من بداهته، فإن الرهان على التطوير العلمي، وتوجيهه إلى خدمة البشرية بصفتها هدفاً استراتيجياً، لا يبدو مسألة بسيطة، أو موضوعاً لتوافق عالمي حول سبل إدارتها وتنظيمها. ويمكن إجمال أبرز

المعضلات مثلما تجلت في العقود الأخيرة في:

1 معضلة الحرية والمسؤولية الاجتماعية: لم يعد موضوع جدال تقريباً حقيقة أن حرية البحث العلمي هي الرهان الرئيسي لسبر الآفاق غير المحدودة للعلم. وتكشف خبرات التاريخ عن أن محاولات تقييد البحث العلمي، أو توجيهه بأي أجندات سياسية أو قيمية، كانت تنعكس دوماً في انحدار المكانة العلمية للدول، أو المجتمعات التي تتبنى هذا النهج.

وعلى الرغم من ذلك، فإن الأزمات المتاحقة، التي تفرض تحديات جسيمة أمام الإنسانية حالياً، مثل مخاطر التغير المناخي، وأزمات الطاقة، وتداعيات النمو البشري الضخم، ومتطلبات الوفاء باحتياجات البشر المتزايدة بشكل عاجل، باتت تفرض على الحكومات مسؤولية مزدوجة، تتمثل في ضرورة توفير أبنية البحث العلمي الحرة، ودعمها، ويمكن أن يكون للقطاع الخاص والأهلي دور مهم في هذا المجال، وبالتوازي مع ذلك دعم مشروعات تستجيب للتحديات الأكثر إلحاحاً في اللحظة الراهنة. ويظل ضمان التوازن بين هذين الركنين مسألة مهمة وأساسية لضمان عدم إعاقة الفرص البعيدة المدى للتطور العلمي.

2 معضلة إتاحة نتائج البحث العلمي: تبرز هذه المعضلة في ضوء اعتبارين: أولهما هو التكلفة المرتفعة للبحث العلمي، التي باتت تقتضي أن يتاح لمطوري العلم، خاصة من جانب شركات القطاع الخاص، القدرة على تسويق مخرجات إنتاجهم العلمي بشكل يضمن لهم تحقيق عوائد تضمن استدامة العملية البحثية.

وأما الاعتبار الثاني، فيتعلق بحرص الدول، خاصة الأكثر تقدماً، على احتكار بعض جوانب إنجازها العلمي لتعزيز بناء قدراتها الاستراتيجية في ظل التنافس، بل الصراع المتزايد على المكانة والنفوذ في النظام الدولي.

وتعد تلك من أكثر التحديات استعصاءً في الخبرة الحديثة للتطوير العلمي، ويبدو أن «القمة العالمية للحكومات » ستكون معنية بتطوير توافقات حول هياكل واستراتيجيات تتيح تجاوز هذه المعضلة. ولعل من الحلول الممكنة في هذا الصدد دعم إرساء مؤسسات البحث العلمي وهياكله في الدول الأقل تقدماً أو ثراءً، وكذلك إنشاء صناديق لإتاحة سريعة وعادلة للتقنيات العلمية الحديثة للفئات الأكثر هشاشة، خاصة في لحظات الأزمات الحرجة، مثل جائحة كورونا.

وفي ضوء التحديات الجسيمة التي تواجهها حالياً البشرية، دولاً ومجتمعات ومجموعات بشرية، يبدو أن «القمة العالمية للحكومات » تمثل رهاناً إنسانياً تقدمه الإمارات إلى العالم كله، بمنطق تحكمه الواقعية والانفتاح والتكامل بعيداً عن الجمود السياسي، أو الأيديولوجي، أو أي أنماط أخرى من أطر الانغلاق على الذات، التي بدأت تقيد فرص إرساء السلام والتقدم والازدهار للبشرية كلها.

* مدير عام مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية