منذ ظهور أول فرق الخوارج في عهد الخلفاء الراشدين، وحتى آخر نسخة من نسلهم في زمننا الحالي، الذي اتخذ ولا يزال خلال العقود الخمسة الأخيرة مسميات لجماعات ومجموعات كثيرة في مختلف بقاع العالم الإسلامي، والمؤكد في فكرهم وحركتهم هو هذا الغلو أو التطرف في الأفكار، وذلك الإمعان في العنف والإرهاب. إن تأمل أعمق لهذه الجماعات والتنظيمات التي تنسب نفسها للإسلام خلال العقود الأخيرة وتمارس أسوأ صور العنف والقتل والتدمير، ربما يفضي إلى تفسير فكرها المتطرف وسلوكها العنيف الإرهابي، بخليط من العوامل الفكرية والنفسية تؤدي إلى تلك الممارسات المدانة والخارجة ليس فقط عن قواعد القانون والإنسانية، بل أيضاً عن القواعد العامة التي وضعها الإٍسلام للاختلاف وحتى للحرب والقتال.
ولعل العامل الرئيس الذي ساهم في تشكيل تلك الظاهرة هو الطبيعة العامة لقراءة تلك الجماعات والتنظيمات لنصوص الإسلام المقدسة، حيث يغلب عليها الأخذ بظاهر النصوص وليس بأسباب نزولها، والجنوح نحو تعميم ما يمكن استنتاجه عنوة منها، دون تمحيص عقلي أو قياس تاريخي أو موضوعي. ويغلب على تلك التنظيمات والجماعات فهمها للإسلام والنصوص المقدسة الكريمة بطريقة تؤدي بها إلى النظر من خلالها للأفراد والمجتمعات والدول من منظور واحد فقط شديد الضيق، في حين لا تلقى اهتماماً يُذكر بما هو دون ذلك من مستويات ومصادر فقهية وشرعية.
كذلك فإن استغراق هذه المجموعات في النصوص الإسلامية المقدسة وحدها، وبهذه الطريقة الشكلية في الفهم والقراءة، دون أي التفات للواقع الاجتماعي المعاش والمحيط بها، والذي من المفترض أن تتفاعل معه تلك النصوص وتؤثر فيه، يحول دون استيعابها حقيقة التفاعلات المحيطة بها في هذا الواقع، ويجعلها أسيرة للنصوص المقدسة، والتي تقوم بتفسيرها حرفياً وبظاهرها فقط، دون اللجوء لأي مناهج أخرى إسلامية أيضاً في هذا التفسير تأخذ بأسباب النزول والمنهج اللغوي وغيرها من مناهج.
ومن الواضح أن ما تفتقده الأغلبية الساحقة من أعضاء تلك الجماعات والتنظيمات المتطرفة والإرهابية من تعليم ديني متخصص، بل وأصول بعضهم غير العربية وعدم معرفتهم القوية باللغة العربية، هو أحد أسباب عدم إلمامهم بمختلف مدارس الفكر الإسلامي وفرقه ومذاهبه، بما يحول بينهم وبين مقارنتها ما يتلقونه ويعتقدونه من رؤى وتفسيرات منحرفة للنصوص، فلا يتبين لهم مواضع الخطأ والصواب فيه.
ومن الواضح من متابعة الإنتاج النظري لمعظم تلك الجماعات والتنظيمات أنه منحصر في مدرسة فكرية دينية متشددة ومتطرفة بتنويعاتها، دون أي تأثر بمختلف المدارس الفقهية والفكرية الإسلامية الأخرى، والتي تمثل السواد الأعظم الوسطي عبر التاريخ الإسلامي كله، بما يوحي بعدم اطلاع من أصحاب هذا الفكر المتشدد المتطرف على إنتاج تلك المدارس أصلاً. فبالنسبة لهؤلاء تمثل بعض النصوص الإسلامية وآثار السلف المختارة والمجتزأة من سياقها القرآني العام ومن الأسباب المحيطة بها ومن علاقتها بفقه الواقع، المعين شبه الوحيد لجلب الأفكار والخبرات التنظيمية والحركية. ويدفع ذلك النوع من التأويل والقراءة هذه الجماعات والتنظيمات إلى اعتقادها بأن معظم – ولدى بعضها جميع – المجتمعات والدول المسلمة الحالية قد عادت إلى حالة الجاهلية التي سبقت ظهور الإسلام.
وبالتالي فإن تلك التنظيمات والجماعات تعتقد أن العنف والإرهاب، أو الجهاد كما تسميه بهتاناً، هو الوسيلة الوحيدة لديها باعتبارهم «العصبة المؤمنة» التي ستعيد الإسلام إلى أصله وتدفع عنه عدوان أعدائه والخارجين عليه.
وعلى قاعدة هذا العامل الرئيس المركزي تقوم العوامل الأخرى المتنوعة التي شكلت تلك الظاهرة المتطرفة والإرهابية بأفكارها وممارساتها. فقد بدا منطقياً أن تغلق تلك الجماعات والتنظيمات، وهي في انغلاقها على نفسها وطابعها السري وعزلتها عن مجتمعاتها، عقولها أمام أي التزام أو تطبيق لأي قواعد قانونية، أو إنسانية دولية، أو محلية تخرج عن تفسيراتها المنحرفة، حيث تعتبر أن كل ذلك يعد منتجاً مبتدعاً غير إسلامي غير ملزم لها. فراحت توجه أسلحتها للجميع دون استثناء أو مراعاة لأي قواعد إنسانية أو قانونية وقبلها ضوابط الحرب والقتال في الإسلام نفسه حتى في مواجهة أعدائه وأعداء الأمة، كما كانت تجري الأمور في عهد النبوة الشريفة.