اتسمت الأوضاع السياسية الدولية خلال حقبة الحرب الباردة في القرن المنصرم بتشنج أجوائها وتلبدها بالغيوم الكثيفة إلا أنها لم تتمخض رغم قعقعة السلاح هنا أو هناك عن تورط إحدى القوتين العظميين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي بشكل صريح فيها رغم انشغال أجهزة مخابراتهما بحروب دائمة. فقد شهدنا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حروباً عديدة منها الحرب الكورية والحرب الفيتنامية وشهدنا كذلك أزمات خطيرة كادت تؤدي إلى حرب عالمية منها أزمة الصواريخ الكوبية والحرب السوفييتية في أفغانستان وغير ذلك مما هو أقل أهمية. وقد حرصت معظم دول العالم على تأمين سلامتها بعد أن انتشرت الحرب الباردة إثر قيام القوتين العظميين بتحشيد حلفائهما في كل من أوروبا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية ودول جنوب شرق آسيا.

نهاية الحرب الباردة مطلع تسعينيات القرن المنصرم لم تنه بؤر التوتر والصراع بل خففت من غلوائها إلى حين، وها نحن نشهد عودتها إلى واجهة الأحداث بقوة إذ لم تتمكن عشرات السنين التي مرت من تهدئتها بل زادت بعضها احتقاناً وفجرت بعضها الآخر.

صحيح أن حياة الحاضر أصبحت أوفر ثراء ولكنها لم تصبح أكثر أمناً وطمأنينة عن ذي قبل، فقد رصد معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام في التقرير التحليلي الذي أصدره في مايو 2022 تحت عنوان «بيئة السلام: (الأمن في عصر جديد من المخاطر) زيادة في عدد النزاعات المسلحة بين عامي 2010 و2020، إذ وصل عددها إلى 56 نزاعاً مسلحاً، كما تضاعف عدد اللاجئين والنازحين من جرائها وقفز إلى 82.4 مليون إنسان، ورُصدت زيادة ملحوظة في عدد الرؤوس النووية في العام 2020 بعد سنوات من التخفيض، وفي العام 2021 تجاوز حجم الإنفاق العالمي على التسلح 2 تريليون دولار لأول مرة.

إلا أن اثنين من هذه الصراعات هما الأخطر على السلم العالمي، فهما مرشحان أكثر من غيرهما للانتشار خارج أطرهما الإقليمية، لأن ثلاثاً من القوى العظمى في العالم أطراف فيها، الأولى تفجرت في القارة الأوروبية التي شهدت في الماضي انطلاق شرارة الحربين العالميتين في القرن المنصرم، وهي الحرب في أوكرانيا التي مضى عليها عام كامل وهي في تصاعد مستمر وزيادة في انغماس القوتين العظميين الولايات المتحدة وروسيا فيها، وانغماس معظم الدول الأوروبية فيها عن طريق فرض المقاطعة على أحد طرفيها وتقديم الدعم السياسي والمالي والتزويد بالسلاح للطرف الآخر، هذه الحرب هي الأقرب إلى حرب عالمية وتحمل في طياتها مخاطر حرب نووية.

الصراعات التي تدور في العالم هي في جوهرها تعبير عن عدم القناعة بالنظام العالمي السائد وتمرد عليه، فانطلاق الحرب بين روسيا وأوكرانيا مثال على تمرد روسيا على هذا النظام ورفض لضوابطه الأمنية التي تشرف الولايات المتحدة على إيقاعاته ودعوة لأطراف أخرى للتضامن مع هذا الرفض وخاصة إيران التي ألقت بثقلها إلى جانب روسيا مصعدة بذلك من حمى صراع ثالث هي طرف فيه، صراع يوشك أن يتفجر في منطقة الشرق الأوسط على خلفية برنامجها النووي وسياساتها التوسعية في المنطقة.

أما الثانية فهي في جنوب شرق آسيا، حيث مستقبل تايوان هو ما يؤجج الصراع الصيني الأمريكي ويهدد بتفجيره، فالصين مصرة على ضم تايوان في الوقت الذي تتمسك الجزيرة باستقلاليتها على الرغم من أنها ليست عضواً في الأمم المتحدة ولا تحظى سوى باعتراف 15 دولة فقط معظمها دول جزرية صغيرة غير ذات صوت يذكر على المستوى السياسي الدولي، إلا أنها تحظى بدعم وحماية الولايات المتحدة.

ورغم الصعوبات الجغرافية التي تقف عائقاً أمام الولايات المتحدة لخوض حرب تبعد آلاف الكيلومترات عن مسرحها من جهة وعدم شعبية أي انشغال واسع لقواتها خارج الأراضي الأمريكية من جهة أخرى بعد حربين لم تحظيا بدعم الداخل الأمريكي في أفغانستان والعراق، إلا أن مبررات قيامها واردة جداً. فالصراع بين الولايات المتحدة والصين يتجاوز كثيراً الموقف من مستقبل تايوان إلى ما هو أبعد من ذلك، فلدى واشنطن توجسات جدية حول مستقبل النظام العالمي الذي تتزعمه وطموحات الصين لإشغال موقع قيادي فيه، لأنها تمتلك ثاني أكبر اقتصاد في العالم ويتوسع نفوذها السياسي عالمياً خاصة في كل من الشرق الأوسط والقارة الأفريقية، وتتعزز قواها العسكرية ويزداد حضورها في الفضاء الخارجي، وترى فيها الولايات المتحدة منافساً خطيراً على مستوى السيادة في الساحة الدولية.

 

*كاتب عراقي