ثلاثة أعوام عاشها العالم ومختلف دوله وأقاليمه، شهدت التحولات الأكبر والأهم ربما منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 وانهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي في ديسمبر عام 1991. ففي يناير 2020 بدأ الانتشار السريع لفيروس كورونا في موجته الأولى ليتحول بعد أسابيع قليلة إلى جائحة دولية بحسب منظمة الصحة العالمية.
وبعد عامين فقط، وفي فبراير 2022، دخلت القوات الروسية المناطق الشرقية والجنوبية والشمالية الشرقية من جارتها أوكرانيا في «عملية عسكرية خاصة» بحسب تسمية الرئيس فلاديمير بوتين لها حينها، سرعان ما تحولت إلى حرب حقيقية لا تزال مستعرة حتى اليوم.
وفي أثناء وطوال هذه الأعوام الثلاثة، خيمت على العالم وتتابعت حتى اليوم أزمات اقتصادية وتجارية ومالية وغذائية عاتية، وضعت اقتصاد العالم كله ومعه اقتصادات الغالبية الساحقة من دوله في أوضاع غير مسبوقة منذ الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين والأزمة المالية العالمية عام 2008.
والجديد في هذه الأعوام الثلاثة على صعيد النظام الدولي في قرن كامل منذ نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918، تداخل أنواع الأزمات معاً لتشكل في النهاية مشهد أزمة عالمية مركبة ومتعددة الأبعاد يحاول العالم ودوله الفكاك منها. ولكي ندرك المعنى الجديد للأزمة العالمية الحالية، نعود إلى أبرز الأزمات التي عرفها العالم منذ بداية القرن العشرين، لنكتشف أن هذا التداخل بين تلك الأبعاد لم يحدث قط.
فعلى الصعيد الصحي، عرف العالم العديد من الأوبئة بدءاً من أوائل القرن العشرين، فكانت هناك الإنفلونزا الإسبانية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى (1918 - 1919)، وأدت إلى وفاة ما بين 40 و50 مليون إنسان في مختلف أنحاء العالم وأصابت نحو ربع سكانه، وبعدها وفي ما يتعلق بعدد ضحايا مرض نقص المناعة المكتسبة «الإيدز»، الذي ظهر عام 1981 وما زال منتشراً حتى وقتنا الحالي، وأودى بحياة ما بين 25 و35 مليون شخص، وهناك أيضاً فيروس سارس عام 2002 وإنفلونزا الخنازير عام 2009 ووباء إيبولا عام 2014، وغير هذا من أوبئة خطيرة انتشرت في تلك الأعوام الطويلة، وصولاً إلى جائحة كورونا التي أصابت حتى الآن نحو 700 مليون شخص وأدت لوفاة قرابة 7 ملايين منهم.
وكما أسلفنا الذكر، فقد كانت أزمتا الكساد الكبير بدءاً من عام 1929 والركود المالي عام 2008، الأبرز اقتصادياً على الصعيد العالمي منذ بداية القرن العشرين، أما على الصعيد السياسي – العسكري، فقد عرف العالم حربين عالميتين والكثير من الحروب الإقليمية ذات السمات الدولية، وعدداً أكبر من الأزمات السياسية الحرجة.
ولم يحدث طوال هذه الحروب والأزمات الدولية من تغيرات في شكل النظام الدولي سوى مرتين عقب الحربين العالميتين، إذ تشكلت عصبة الأمم فور انتهاء الحرب العالمية الأولى، وحلت محلها الأمم المتحدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وشهد النظام الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مراحل متفاوتة من الحرب الباردة والوفاق وبعض التوترات والتحالفات الجزئية، ولكن جوهره الرئيس لم يتغير، وظلت الانقسامات: الشرق والغرب، الشمال والجنوب، كما هي من دون تغير كبير.
طوال هذه الأزمات النوعية الكبيرة المتعاقبة، الصحية والاقتصادية والسياسية – العسكرية، لم تتداخل أي منها مع الأخريات في في أكثر من قرن من الزمان، وظلت تأثيرات كل منها وتداعياتها تسير منعزلة عن الأزمات الأخرى. المرة الوحيدة التي حدث فيها خلاف هذا هو ما يواجه العالم اليوم بعد وفي هذه السنوات الثلاث، فقد نتج عن الجائحة – ولا يزال – آثار اقتصادية وتجارية ومالية فادحة في العالم كله، وأتت الحرب الروسية – الأوكرانية لتضيف إليها أبعاداً أخطر على هذا الصعيد ومعه أوضاع الغذاء والطاقة العالمية، وتداخل معهما وضع وشكل النظام الدولي كله سياسياً واقتصادياً ومالياً وتجارياً، فأصبحنا بهذا أمام أزمة عالمية مركبة الأبعاد معقدة التكوين والحل للمرة الأولى في قرن كامل.
فقد بدأت الأزمة بالصحة، وتلاها الاقتصاد والتجارة، ثم أتت السياسة ومعها الصدام العسكري، ما أثر بقوة سلباً في الاقتصاد والتجارة وحركة الأموال والطاقة، ثم عاد كل هذا مرة أخرى إلى السياسة التي لا تزال في طور التبلور، سواء على صعيد التحالفات السياسية الدولية، أو على صعيد شكل ومضمون النظام العالمي الذي لم يتبلور نهائياً بعد. ويبقى في قلب كل هذا الاحتمالات الخطرة التي يراها بعضهم حقيقية، أن تدفع كل هذه الأبعاد المعقدة للأزمة العالم إلى حافة الصدام العسكري أو حرب عالمية ثالثة.
حقاً إنها أزمة غير مسبوقة ومستقبل مجهول.