منذ أيام قليلة جمعتنا مناقشة مع بعض الأصدقاء الحميمين من شباب الباحثين والصحافيين الجادين والساعين دوماً إلى تأسيس معرفتهم بما يجري في بلادنا وحولنا في العالم والإقليم. وتطرق الحديث إلى المتغيرات الكبرى التي بات العالم يشهدها إثر الحرب الروسية – الأوكرانية، ومؤشرات تحول شكل وجوهر النظام الدولي، بعدما دخلت الصين والهند ومعهما روسيا وعديد من دول شرق وجنوب شرق آسيا إلى المعادلة العالمية الجديدة.

وبينما الأصدقاء محتدمون في نقاشهم، تذكرت أنه في عامنا الحالي (2023) تكون أعوام أربعون قد مضت منذ أن نشر كتاب «ريح الشرق» عام 1983، وبعده بعامين كتاب «تغيير العالم»، وكأنهما يقرآن ما كان وقتها غيباً، وأضحى اليوم واقعاً نعيشه منذ سنوات، ومستقبلاً يتشكل بصورة تدريجية. إنهما مؤلفان من عشرات أخرى للمفكر الكبير وأستاذ الفلسفة وعلوم الاجتماع والمؤرخ الوطني البارز الدكتور أنور عبدالملك، هذا المفكر الذي ولد في القاهرة عام 1924، وغادر دنيانا في باريس عام 2012، وظل طوال مسيرته الفكرية الطويلة شديدة الثراء سباقاً في اختراق مجالات جديدة في كل تخصصاته المشار إليها، واضعاً فيها جميعاً رؤى ونظريات وأفكاراً لم يسبقه إليها أحد، وظلت نبوءاته في ما يخص بعض القضايا والموضوعات وكأنها رؤية «زرقاء اليمامة» التي استكشفت ما هو أبعد مما يراه الجميع.

كان عبدالملك ابناً للطبقة الوسطى العليا المصرية التي كانت في هذا الوقت من القرن العشرين تعلم أبناءها في مدارس التعليم الفرنسي، فالتحق بمدرسة «الجزويت» الشهيرة، بينما تحصل على دروس الوطنية في منزل عائلته ذات الإسهام في ثورة الشعب المصري الكبيرة عام 1919 بقيادة سعد باشا زغلول. وجرت في نهر مصر منذ التحاق الشاب النابه بكلية الآداب جامعة عين شمس، بقسم الفلسفة الذي تتلمذ فيه على يد الفيلسوف الكبير الصارم الزاهد الدكتور عبدالرحمن بدوي، الأفكار الاشتراكية، التي اختارها، ومعها الانضمام للحركة الوطنية المصرية المناهضة للاحتلال البريطاني ولفساد القصر الملكي ومعه الحياة السياسية برمتها.

أتت ثورة الجيش المصري في 23 يوليو 1952، لتبدأ المرحلة الثانية من تطور الشاب الوطني النابه حينها، حيث إن توقه الطويل للتغيير وتشجيعه الكبير لثورة الضباط الأحرار لم يمنعه من الاختلاف معهم في بعض تفاصيل المشهد، ما أدى إلى هروبه من نظام الرئيس جمال عبدالناصر، الذي ظل يرى فيه أكثر أنظمة مصر الحديثة بعثاً لمشروع النهضة بعد نظام مؤسسها محمد علي باشا، عام 1959، متوجهاً إلى فرنسا عبر إيطاليا، ليولد هناك العالم والمفكر الوطني الكبير الذي عرفناه حتى اليوم.

لقد ظلت مصر عند الرجل طوال مشواره الفكري والسياسي هي الجوهر الحقيقي لكل ما يسعى إلى فهمه ودرسه وعمله، وهي أصل الأصول التي يسعى دوماً للغوص فيها ومحاولة فهمها، ففي عشرات الكتب ومئات الدراسات وآلاف المقالات والمحاضرات التي أنتجها منذ النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي وحتى وفاته، ظلت مصر بشعبها وتاريخها ودولتها الوطنية ومدارس الفكر والعمل التكوينية بها ومستقبلها هي مركز كل تحركاته الفكرية واجتهاداته النظرية والعملية، لم يتوقف لحظة عن الدوران حولها، من أجل تحقيق نهضتها الكبرى في سياق أشمل من نهضة الشرق كله، الذي ظل الرجل يتوجه إليه طوال مسيرته الطويلة.

وهنا نعود إلى كتابيه اللذين تذكرتهما أثناء المناقشة المشار إليها، فعبدالملك كان الأول في جيله كله عربياً ومصرياً، ولحق به بعدها عدد من كبار المفكرين والكتاب والباحثين، الذي توجه مبكراً للغاية إلى هذا الشرق البعيد في آسيا زائراً وباحثاً، والذي مثلته له دوماً وبصورة استشرافية شديدة الوضوح «جمهورية الصين الشعبية»، وربط دوماً مستقبلنا المصري والعربي بهذا «الشرق» الأكثر اتساعاً، والذي تنبأ قبل أربعين عاماً في كتابه «ريح الشرق» بأنه الصاعد والمنتصر لا محالة على الصعيد العالمي. ولم يكن صاحب نظرية «الجدلية الاجتماعية» (1972)، ليغيب عنه «تغيير العالم»، كتابه الذي أصدره عام 1985، ليرسم فيه ملامح لمشاهد لم نعرفها واقعياً سوى منذ سنوات ليست بالبعيدة، وما زلنا نترقب اكتماله.

إذن، فقد كان لدينا في ثقافتنا العربية من استطاع أن يدرس ويحلل بعمق ويستشرف لنا بعلم مسار العالم قبل عقود طويلة، ويحدد لمصالحنا الوطنية والقومية مسارها نحو الشرق الأوسع. لم يفعلها أنور عبدالملك بمعجزة أو بضربة حظ، بل بإصرار لسبعة عقود أن يتعلم ويعلم حتى آخر لحظات قدرته على العمل، فلم يتوقف أبداً عن القراءة والاطلاع على كل ما تنتجه العلوم الاجتماعية والإنسانية، ولا عن متابعة دقيقة لكل ما تصدره مراكز البحوث والصحف والدوريات الكبرى في العالم عن تطوراته وتحولاته بكل اللغات، وظل ينتج ويبدع أفكاراً ونظريات ومصطلحات، باتت اليوم ركناً أساسياً في علوم الاجتماع والتاريخ والسياسة، التي لم تعد كما كانت من قبل أنور عبدالملك.