ظل العالم لنحو ثلاثة عقود، يعيش في ظل حالة العولمة التي هيمنت طوالها على النظام الدولي كله، وتفاعلاته الداخلية والخارجية. ففي ظل هذه العولمة، التي تجاوزت أبعادها المجال الاقتصادي والمالي الأصلي الذي قامت عليه، امتدت حدودها لتصل إلى أبعاد أخرى، ثقافية واجتماعية وسياسية وغيرها، بما جعل التساؤل حول هوية الشعوب والمجتمعات وحقيقة انتمائها، من أبرز ما تبحث عن إجابة مطمئنة له.

واعتقد كثيرون أن العالم بات بسبب تسارع وسائل الاتصال وشيوع أنماط الاستهلاك والثقافة التي تقاربت بصورة لافتة، بالفعل «قرية» كونية واحدة، لا يميز جزءاً منها عن الآخر شيء بارز أو جوهري، وأن هوية «عالمية إنسانية» واحدة، أصبحت هي الهوية الموحدة والواحدة لكل شعوب العالم.

وبالرغم من شيوع وهيمنة هذه الرؤية طوال تلك العقود الثلاثة على الأقل، إلا أن أصواتاً أخرى ظلت موجودة، تنفي فكرة الهوية العالمية الواحدة، وتؤكد على أن تسارع وسهولة اتصال العالم وتقارب أنماط استهلاكه ورؤاه، لا يعني أبداً انتهاء وذوبان الهويات المختلفة المتميزة للشعوب والجماعات البشرية.

وانطلق هؤلاء من تعريفات عديدة للهوية، جمعت بينها عناصر ثلاثة، تعد معاً مكونات الهويات المتمايزة بين شعوب العالم وجماعاته، فهناك الواقع الاجتماعي الذي يشمل الأرض التي تقيم عليها لفترات طويلة للغاية، ومعها الأصول العرقية التي تجمعها، وهناك التاريخ الطويل الذي تعيشه الشعوب والجماعات معاً على أرضها، ثم الثقافة أو طريقة الحياة، والممارسة الاجتماعية التي تتشكل بفعل العنصرين السابقين، لتشكل هذه العناصر الثلاثة مفهوم الهوية لدى الأفراد والشعوب. وكما ذكرنا في مقال سابق، أتت جائحة «كورونا» والأزمة الروسية الأوكرانية، لتخلخلا بشدة فكرة العولمة، وتعيدا كثيراً من الاعتبار لمفهوم الهويات المختلفة.

وقد ظل سؤال الهوية خلال القرنين الماضيين قائماً وملحاً في كثير من المجتمعات العربية، يطرح نفسه على النخب والجماهير، إلا أن معدلات طرحه وأبعاد الإجابات عنه قد زادت بصورة كثيفة، خلال العقود الثلاثة التي راحت فيها ملامح ورؤية العولمة تمد هيمنتها على العالم كله. وقد زاد من حدة وعمق التساؤل حول الهوية والانتماء في بعض المجتمعات العربية، تعدد الأطر التاريخية والثقافية التي تتكون منها، أو التي مرت بها عبر تشكلها التاريخي.

وهنا تأتي حالة المجتمع المصري، لتبدو بارزة ونموذجية، حيث تتعدد الجذور والسياقات الثقافية والتاريخية التي قام عليها، والتي يمكن للبعض منها منفرداً، أن يؤسس أحياناً لهويات وانتماءات مختلفة.

فقد تعددت وتراكبت الجذور والسياقات التي تشكل منها المجتمع المصري، عبر عشرات القرون، بدءاً من العصور الفرعونية والقبطية المسيحية والعربية الإسلامية والأفريقية، وانتهاءً بالمتوسطية، نسبة لحوض البحر المتوسط. وقد شهدت مصر جدالات سياسية وثقافية واسعة حول حقيقة انتمائها وهويتها منذ عشرينيات القرن العشرين المنصرم، وحتى الوقت الراهن.

إلا أن بدء واستمرار وتجدد تلك النوعية من الحوارات والخلافات حول الهوية الرئيسة لمصر لأكثر من قرن من الزمان، لم يعنِ قط أنها لم تستقر بعد كمجتمع على هذه الهوية، بقدر ما كان يعنى استمرار وجود تلك النوعية من الخلافات ذات الطابع الفكري والأيديولوجي، بين أطراف النخبة الثقافية والسياسية المصرية، وإن امتد أحياناً إلى بعض فئات المجتمع، وبخاصة في ظل صعود وتفشي حالة الإسلام السياسي داخل البلاد.

خلال العقود السبعة الأخيرة على الأقل، أضحى الإقرار بانتماء مصر إلى محيطها العربي وثقافتها الإسلامية، واحداً من أبرز الثوابت التي نجحت تطورات كثيرة، جرت خلالها في ترسيخها بصورة شبه نهائية في الفكر والوعي والوجدان الجمعي، والممارسة السياسية في مصر، بعد أن كان محض فكرة هائمة بين بعض التيارات السياسية. فبالرغم من بعض مراحل المد والجزر في علاقات مصر السياسية عربياً خلال تلك العقود السبعة، فهي قامت جميعاً على الإقرار الثابت والمستقر، بوجود انتماء مؤكد لمصر في الإطار العربي، يترتب عليه أدوار سياسية وثقافية وفكرية، سواء كانت إيجابية أو سلبية.

ولم تقدم الدولة المصرية، حتى في أشد مراحل خلافها مع الإطار العربي ما بين عامي 1979 و1985، على إجراء أي تعديل يمس انتماء مصر العربي في وثائقها الرئيسة، وفي مقدمها دستور البلاد، ومختلف المعاهدات والاتفاقيات التي تربطها بالعالم العربي، كما ظل التوجه عربياً هو الأساس في سياستها الخارجية، وهو ما تزايدت مؤشراته وملامحه بكثافة خلال العقد الأخير.