كانت تكسو ذلك الجسد الذي لا يعتريه الخوف، ولا يعرف كيف يرتعد، بدلة عسكرية، اصطفت عليها النجوم الواحدة تلو الأخرى متزاحمة، لتبرز كل منها مكانتها على ذينك المنكبين، وتترصع خلف كل واحدة عبر رسائل وسيناريوهات وقصص يسردها التاريخ، وبطبيعة الحال، لم تبرز تلك النجوم من تلقاء نفسها، بل جاءت نتيجة معارك ملحمية، وتضحيات كثيرة، وأحداث مشرفة شهدت عليها الأجيال، حتى استطاعت هذه النجوم أن تتخذ، كل منها، مستقراً مشرفاً ثابتاً على ذينك المنكبين، في النهاية، وعن جدارة واستحقاق.

كنا في أواخر شهر آب، أو بالأحرى الشهر الثامن «أغسطس» بالتحديد، وهو أحد شهور السنة الميلادية حسب الأسماء السريانية المستعملة في المشرق العربي، التي تميل نفسي إليها، ولست أعلم ما سبب هذا الشعور، قد يكون رغبة مني في رجوع الأيام إلى الوراء.. إلى ذلك الزمن الجميل. وتلك الحقبة؛ لأخبرهم بأن التضحيات المشرفة لم تكن في تلك العصور، بل انتعشت وازدهرت، وبدأ ثمرها يظهر في عصرنا أيضاً.

تشير الساعة إلى الخامسة والربع فجراً، الموقع بالتحديد مطار العاصمة أبوظبي الدولي، إعلان الكابتن المقدم طيار «م: ا» الذي غاب عن الوطن بعد مهمة رسمية طويلة دامت أعواماً، وأهمها نقل تجربة إماراتية فريدة من نوعها لعدد من الحكومات. يعود المقدم طيار، الذي كان مكلفاً بنقل هذه التجربة بأسلوب تقني علمي مميز يدرس في أكبر الجامعات؛ ها هو يعود إلى أرض الوطن وهو يقود الطائرة المتوجهة من مطار هيثرو إلى مطار أبوظبي الدولي.

أشرقت الشمس قبل أن يعلن الكابتن عن بدء الهبوط التدريجي، وبدأ الإعلان هو بنفسه مع تردد الأصوات في صدره، يستوقفه الحنين والشوق بهمسات متحشرجة شيئاً فشيئاً حتى استطاع أن يستعيد أنفاسه: سادتي، سيداتي، أنا المتحدث الكابتن مقدم طيار «م: ا» أعلن عن وصولنا إلى أرض الوطن الحبيب سالمين، الحمد الله.

وضع الجهاز جانباً، ضاقت به الطائرة، اتسعت ورحبت به المدينة، ثم توجه إلى طاقم الطائرة، وقال لهم: هل كانت الرحلة طويلة؟ بدأت نجوى النفس تعتمل في قلبه، ومن تباريح الشوق للحظة الوصول إلى أرض الوطن يناجيها ويوجه إليها الحديث تارة، ويطمئنها تارة أخرى، يقول: على رغم السرعة المحددة إلا أن كل شيء بات بطيئاً، حتى صوت إطلاق العجلات المكبلة أسفل الطائرة بطيء جداً. اعترتني رعشة غريبة وكأنها حمّى عشق، رجفة تعتري جسمي.

تحرر من ذلك المقعد بعد أن نزل جميع الركاب وطاقم الطائرة، ولم يبق أحد سواه على متنها. فتح الباب على مصراعيه، وأعلن بصوت جهوري عن وصول الطائرة إلى أرض الوطن. تحشرجت نفسه في صدره، طمى الماء وارتفع وملأ النهر امتدادات الفيضانات إلى حدود مترامية أبحرت في داخله من غير أن تنجرف عن تلك السيول والوديان أية دمعة.

وما إن وطئت قدماه أديم الأرض حتى احتشدت الممرات بالناس وازدحمت.. سيدي ينبغي أن نتوجه من هنا لحضور مراسم الاستقبال والتكريم.

بصوت يحمل أشواقاً لا يضاهيها وصف: هل لي بخلوة لدقائق أحتضن فيها موطني ومسقط رأسي؟ انفضّ الجميع من حولي، واختفت المركبات عبر تلك السلالم بخطوات واثقة، تزاحمت في الذهن لحظات فرحة وذكريات لا عد لها ولا حصر.. تجردت من تلك الحشود.. أشعل النار بالثقاب.. انطفأ فتيل الشوق في داخلي. «موطني هأنذا».