يدعو ما شهده العالم على مدى السنوات الثلاث المنصرمة من تحديات اقتصادية وسياسية وصحية وطبيعية للتفكير ملياً في بناء رشاقة اقتصادية حقيقية تقوم على بناء المنعة الاقتصادية وتحويل التحديات إلى فرص، ومواجهة متطلبات المستقبل نحو الوصول إلى الاستقلالية السيادية، أخذاً في الاعتبار تفعيل مفهوم الاعتمادية المتبادلة بين دول العالم، بعيداً عن التبعية، ولتجسير الهوَّة بين الوفرة والندرة عبر التعاون الاقتصادي المثمر للجميع.

من هنا برز مفهوم التنوُّع الاقتصادي البعيد عن التركُّز في المخاطر القائمة على محاور الإنتاج، والتجارة، وحتى في تحقيق مستويات آمنة متنوعة من المالية العامة.

وفي هذا الإطار جاءت أهمية صدور النسخة الجديدة من مؤشر التنوُّع الاقتصادي، Economic Diversification Index، الذي بدأ بالصدور منذ عامين، وهو تقرير نوعي يقوم على إعداده فريق من المختصين من كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية، ومجموعة البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، ومؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية.

وأُطلقت النسخة الجديدة من تقرير مؤشر التنوُّع الاقتصادي على هامش القمة العالمية للحكومات 2023. وقد أوضحت نتائج التقرير أن الاقتصادات التي حققت معايير التنوُّع الاقتصادي التي يعتمدها المؤشر من حيث الإنتاج، والتجارة الدولية، ومصادر الإيرادات العامة، هي بالضرورة الاقتصادات الأكثر تقدُّماً، والأوسع انتشاراً، والأقدر على الرشاقة، واستيعاب التغيرات العالمية، والأكثر منعة واستشرافاً للمستقبل. وفي هذا السياق، وضمن معايير التنوُّع الثالثة.

والقائمة أساساً على تنوع قاعدة الإنتاج أو الناتج، وتنوع قاعدة التعاملات الدولية، عبر التجارة الخارجية، وتنوع مصادر الإيرادات العامة، عبر توسُّع قاعدة الإيرادات العامة الضريبية منها وغير الضريبية، فقد تربَّعت الاقتصادات الأكبر عالمياً على عرش مؤشر التنوع الاقتصادي لعام 2023، فكانت الولايات المتحدة أولى، تبعتها الصين، ومن ثمَّ ألمانيا.

وتشير الخريطة الجغرافية الإقليمية للمؤشر إلى أن الفترة من عام 2000 إلى عام 2021 شهدت قفزات نوعية في اهتمام دول العالم أجمع في تنويع قواعدها الاقتصادية الثلاث، إنتاجاً، وتجارة، ومالية عامة، حيث قفز المؤشر في دول شمال أمريكا نحو عشر درجات ليصل إلى ما يقرب من 131 نقطة مئوية، بفارق كبير نسبياً عن باقي الكتل الاقتصادية العالمية الأوروبية، أو الآسيوية، أو الأفريقية.

وفي الوقت الذي تقبع فيه مجموعة دول أفريقيا جنوب الصحراء في نهاية ترتيب المجموعات العالمية في المؤشر، فإن المؤشرات لدول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومناطق أمريكا اللاتينية، وجنوب آسيا، وشرق أوروبا وآسيا الوسطى تتراوح بين 97 % و101 %، وبمعدلات جيدة من التقدم عن بداية الألفية الجديدة.

ومن المهم القول إن مؤشر التنوع الاقتصادي بقواعده الثلاث، الإنتاجية والتجارية والمالية، ينطوي على أهمية كبرى للمنطقة العربية بشكل خاص، وذلك ضمن محورين أساسيين:

الأول أن المنطقة العربية بشكل عام تكاد تكون الأقل تنوُّعاً بسبب التركز النسبي في مصادر الإنتاج والموارد المالية، سواء أكان الحديث هنا عن الدول الغنية بالموارد الطبيعية أم لا، والثاني: دروس وإرهاصات السنوات الثلاث، بين الوباء والحرب القائمة، التي عزَّزت ضرورة النزوع إلى التعاون المشترك والتحوُّل من الانكشاف للعالم الخارجي إلى أهمية مفهوم الاعتمادية الاقتصادية المتبادلة.

وقد يكون من المناسب الحديث هنا عن أهمية التوجُّهات التي برزت في دول المنطقة منذ بداية العقد الثاني من القرن الحالي، والتي اتجهت نحو العمل على تنويع القاعدة المالية لإيرادات الدولة بعيداً عن مصادر الإيرادات التقليدية التي اعتمدت على الموارد الطبيعية، من نفط وغاز، وغيرها من الصناعات الاستخراجية في مجالات المعادن التي تزخر بها العديد من دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

وقد نجم عن معركة كوفيد 19، والحرب الروسية الأوكرانية، ظهور حالات انكشاف اقتصادي، وخاصة في توفير المواد الأساسية الزراعية منها والصناعية، وحتى في مجال الخدمات اللوجستية، التي أظهرت حالات متعددة من الانكشاف الرقمي للعديد من الدول التي لم تمتلك اقتصاداتها البنية التحتية المناسبة للتحوُّل من الخدمات المباشرة إلى الخدمات اللوجستية عن بُعد، في مجالات التعليم، والصحة، والخدمات المالية، وخدمات النقل اللوجستي بأشكاله الاستثمارية، والاستهلاكية، والحكومية كافة.

وقد أظهر تقرير مؤشر التنوُّع أن السلسلة الزمنية خلال السنوات العشر المنصرمة ولَّدت العديد من القناعات التي تعزّز أهمية التنوُّع الاقتصادي، بعيداً عن الاعتماد المُفرط على مصدر إنتاجي واحد، حتى لو كان منخفض الكلفة في الاستخراج، أو كان ذا وفرة في خزائن الأرض.

والجميل أن دول المنطقة العربية، وخاصة منطقة الخليج العربي، طفقت منذ بداية الألفية الثالثة نحو البحث عن مصادر لتنويع اقتصاداتها ضمن المعطيات الثلاثة لمؤشر التنوُّع الاقتصادي.

حيث ارتفع المؤشر العام للمنطقة من نحو 92 % عام 2000 إلى ما يزيد على 97 % في عام 2021/2020. وجاءت الإمارات الأعلى بالمؤشر بين دول منطقة الخليج، وبتطور نوعي خلال الفترة المذكورة، تلتها البحرين، ثم السعودية، وقطر، وعُمان، والكويت.

والشاهد مما سبق أن العالم اليوم يتعلّم دروساً استشرافية جديدة في إنتاجه، وتجارته، وماليته العامة، عبر الاهتمام الحقيقي بتنويع مصادر كلّ منها، ويمكن القول إن مؤشر التنوُّع الاقتصادي يعدُّ أداة نوعية بين يدي صنّاع القرار الاقتصادي في العالم نحو تبنّي سياسات اقتصادية عامة تتعامل مع المخاطر بفكر الاستشراف، تجنُّباً لها في المرتبة الأولى، قبل حتى الحديث عن حُسن إدارة تلك المخاطر إن حدثت.

ولعل متابعة تطور المؤشر على مدى الأعوام المقبلة هي السبيل الحقيقي نحو ما يمكن تسميته نظام تتبع، أو نظام الإنذار المُبكّر، لمخاطر التركُّزات الاقتصادية الإنتاجية والتجارية والمالية، وهو مؤشر يمكن أيضاً الاعتماد عليه في معرفة مستوى رشاقة الاقتصادات، ومستوى منعتها وقدرتها على امتصاص الأزمات، وأخيراً وليس آخراً قدرتها على الاستشراف الأمثل للمخاطر الاقتصادية.

* أستاذ مشارك سياسات عامة كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية