ماذا يأكل العباسيون؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما تتقدم الشعوب، ترتقي فنونها، وعاداتها، واقتصادها، وتعليمها، وكذلك مطبخها. ولأن المطبخ أكثر الزوايا المهملة في سالف الأزمنة، استوقفتني أكثر الحقب العربية ازدهاراً، وهي فترة الخلافة العباسية.

ففي هذا العصر، برزت طبقة خاصة من المقربين، وهم أصحاب الفنون الجميلة، والأدباء، والعلماء، والفقهاء، والتجار، والموهوبون. تأتي بعدهم سائر طبقات العامة من مزارعين، وسكان المدن، وغيرهم.

وانتعشت التجارة، وحركة نقل التوابل، والأطباق الشهية من الثقافة الفارسية، والبلدان المجاورة، الأمر الذي غذى الذائقة العربية، فتلاحمت الثقافات مع أصالة الموروث العربي، لتكون نسيجاً بديعاً من الفنون، والإدارة، والطعام، والهندسة المعمارية العباسية.

هذا العصر الذي ابتكر فيه ابن الهيثم بواكير عدسات الكاميرات، ولمع ابن حيان في الكيمياء، وقدم لنا الخوارزمي هديته للبشرية: علم الجبر وخوارزمياته، التي بنى عليها علم الحاسوب أركانه، ووضع ابن سينا قانون الطب، الذي شخص الأمراض الخطيرة، ومنها السرطان. وظهرت في العصر العباسي المدارس الفقهية، وترجمت أكبر كمية من الكتب والتراجم من خيرة ما أنتجت الشعوب الأخرى.

كل ذلك الثراء والتقدم، أثار فضولي نحو مائدة العباسيين، التي لم تعطَ حقها عبر التاريخ. وهذا ما دفعني للتسلل إلى مكتبتي، لأعثر على إصدار نوعي بعنوان «كتاب الطبيخ» لمحمد بن الحسن البغدادي، الذي نشره قبل سقوط الدولة العباسية بثلاثة وثلاثين عاماً.

ويصف محققه د. داود الجليبي، الإصدار بأنه نادر في نوعه، ويضم أطباقاً شتى، بعضها يحمل أسماء أكلات شبيهة بما نتناول اليوم، كأطباق اللحوم الرئيسة، وبعضها انقرض على ما يبدو. وحاول المحقق أن يقلدها ويتذوقها بنفسه، ليعيش أجواء أطعمة العباسيين. وما لفت نظري، ترف المائدة، وعشرات الأكلات التي يصعب حصرها، فصنّفها المؤلف في فصول عن الحوامض، والمقالي، والنواشف والهرائس، والتنوريات، والمخللات، والمطيبات.

أما الأسماك، فقد أفرد لها المؤلف فصلاً مطولاً، شرح فيه كيفية تنظيفها، وتفاصيل غسلها، ثم شيّها، أو قليها، والطرق الاحترافية في تقطيع رؤوس الأسماك وأذنابها، وكيفية سحب «السلسلة» لتنقية السمك من العظام والشوك تماماً، كما يقدم لنا في المطاعم الفاخرة، لكنها تحمل اسم «مقلوبة الطريخ». ولم ينسَ أن يعرفنا بأنواع البهارات التي تصلح للأسماك، في حفلة شهية، ذكرتني بالمطاعم العراقية، وتفننهم بالسمك المسكوف وملحقاته.

وذكر الكتاب الماتع سرداً عن أشهى أصناف الحلويات التي تشبه مائدتنا الرمضانية المعاصرة، فكان العباسيون يأكلون «لقمة القاضي»، وهو اسمها القديم إلى عصرنا هذا، ويسميها أهل الخليج بـ«اللقيمات». ووصف كذلك طريقة إعداد «القطائف»، التي تحشى بالأجبان واللوز والسكر المدقوق الناعم، ثم تصف في أوانٍ أنيقة، مثلما نشاهدها في المطاعم التقليدية المعاصرة. وتفننوا في تقديم التمور والرطب بعد نزع النواة، وحشوها بأشهى المكسرات والعسل الفاخر.

وتطرق الإصدار كذلك لأبجديات استعداد الطاهي لدخول المطبخ، كتقليمه لأظافره، وكيفية تعامله مع الأواني، وحسن انتقائها لكل طبق.

‏وعندما كان المؤلف يصف طريقة تحضير الطعام، والتوابل، والكزبرة، وأعواد الدارسين المنقوعة في أشهى أصناف «المرق»، وطريقة القلي، ونصائح انتقاء خضراوات الموسم، شعرت بعد ذلك كله بأنني أشم عبق المطبخ الخليجي، والكويتي تحديداً، الذي انبثقت منه أطايب المأكولات عبر الهجرات المتتالية.

وبدأت، على ما يبدو، بواكير طعامنا الشهي في العصر العباسي. ومن المفارقات، أنني قرأت أكلة السمبوسة (السمبوسك)، أو «السمبوسج»، كما يطلق عليها العباسيون، وكان فيها أيضاً نوع محلى بالسكر والجوز، أقرب لإبداعات أهل البحرين، الذين برعوا فيها بأحجام صغيرة. وشرح الكتاب أيضاً ما يشبه «مكبوس اللحم»، وعشرات الأطباق لكل صنف. ورغم أن اللحم كان سيد المائدة في معظم الأطباق، إلا أن إبداعات تحضيره قد شكلت طرقاً عدة، وهو يعكس ثراء تلك الأمة، والترف الذي كانت تعيشه.

صحيح أننا نمجد من يترك لنا علماً نافعاً، أو معلومات جوهرية عن حياة أسلافنا، لكننا ينبغي أن نقدّر الإسهامات الأخرى أيضاً، التي سلطت الضوء على كل عمل فني وإبداعي، ومنها المائدة العربية و«إتيكيتها»، فهي تكشف الجانب الآخر لحضارتنا.

Email