تفرض التوترات الحادة الجارية في مناطق عدة من العالم أجواء قلق وترقب في جميع دوله، فقد تُرجم البعض منها حرباً ضروساً في أوكرانيا، وقد تُترجم الأخريات في الشرق الأوسط وفي شرق آسيا إلى حروب أخرى، إلا أن هذه التوترات تفرض ما هو أشد من ذلك لدى الدول العظمى، وبشكل أكثر خصوصية لدى الولايات المتحدة الأمريكية، التي تواجه تحديات جدية غير مسبوقة للموقع السيادي الذي تشغله على المستوى العالمي كقوة عظمى وحيدة تصنع الأحداث في كل بقاعه، وتمتلك القدرات لمقاربة تداعيات ما لم تصنعه بفعل ما تحظى به من تفوق اقتصادي كبير، وتفوق عسكري لا يضاهى، أكسبها النفوذ السياسي والتأثير الدبلوماسي، وبالتالي قوة الإقناع!
الولايات المتحدة تحرص على إدامة الوضع المتميز الذي تتمتع به كقوة عظمى وحيدة في العالم منذ سقوط الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة «الأولى»، وأقول «الأولى» لأننا نشهد منذ صعود الرئيس فلاديمير بوتن إلى سدة الحكم في روسيا عام 2000 مطلع حقبة حرب باردة «ثانية» قد تكون أكثر خطورة من سابقتها لأن أجندة تحولها إلى حرب ساخنة مشرعة بشكل خطير. روسيا ليست الدولة الوحيدة التي تقارع الولايات المتحدة وتنازعها كوريث للاتحاد السوفييتي السابق، فهناك الصين التي ربما ترى فيها واشنطن المنافس والخصم الأكثر خطورة على نفوذها الدولي.
الولايات المتحدة تعتبر كلاً من روسيا والصين قوى إقليمية كبيرة لا قوى عالمية عظمى، فهاتان الدولتان لهما وفق المنظور الأمريكي قدرات فاعلة في محيطيهما المباشرين ولا تستطيعان صناعة سياسات خارجهما إلا من خلال مجلس الأمن الدولي بفعل قرار «الفيتو» الذي يحق لهما استخدامه. فالصين هي القوة الاقتصادية الثانية في العالم وروسيا هي القوة العسكرية الثانية فيه.
من الصعوبة بمكان في سياق ما يجري في الساحة الدولية من أحداث إعزاء التغيرات الجوهرية في المزاج السياسي عالمياً إلى حدث واحد، كما يعتبر بعض المحللين السياسيين الحرب الأوكرانية بمثابة نقطة التحول في طبيعة الصراعات السياسية العالمية، فهذه الحرب جزء من مشهد الصراعات بدوافع متعددة بين نظم لا تتباين في مقارباتها لما يجري في العالم من أحداث «أيديولوجيا» كما كان الحال إبان حقبة الحرب الباردة، بل تتباين بدرجة أساسية في المصالح الاقتصادية.
الصين تدخل العالم مدخلاً جديداً ليس كمصدر لمختلف أنواع البضائع إلى معظم دول العالم إن لم يكن إلى جميعها، بل تدخل إليه كإحدى الدول التي تصنع السياسات أيضاً، فالاتفاقية بين المملكة العربية السعودية وإيران حول إنهاء حالة التوتر وتطبيع العلاقات بينهما إنجاز صيني متميز يعزز من دورها في الشرق الأوسط.
من جانب آخر وبعد مرور أكثر من عام على الحرب في أوكرانيا، شهدنا خلاله تصعيداً في تشدد الاتحاد الأوروبي في موقفه العدائي الرافض لها، محملاً روسيا مسؤوليتها، نواجه أحد أقل المشاهد توقعاً وهو تلقي الرئيس الصيني مغازلة صريحة من هذا الاتحاد. فها هو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رئيس واحدة من أهم دوله وأبرزها في حوض البحر الأبيض المتوسط، يحمل حاله مع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين في الخامس من أبريل الجاري متوجهين نحو العاصمة الصينية ليعقدا مع الرئيس الصيني اجتماعاً ثلاثياً في السادس منه حول الحرب في أوكرانيا.
هناك مؤشرات تعبر عن التغيير الذي طرأ على موقف الاتحاد الأوروبي تجاه الصين بشأن الحرب في أوكرانيا، فضلاً عن خلافاتها مع واشنطن، فمع استمرار هذه الحرب تتزايد خسائر أوروبا وآلامها يوماً بعد يوم، وتزداد رغبتها في محادثات السلام والحل السياسي، ما يعكس «درجة معينة من التقارب» مع وجهات نظر الصين، فبعد أن أصدرت بكين موقفها من هذه الحرب في وثيقة من اثنتي عشرة نقطة في الذكرى الأولى للحرب كانت استجابة أوروبا لها أكثر إيجابية بكثير من استجابة الولايات المتحدة، على الرغم من أن الصين لم تعمد إلى إدانة هذه الحرب، بل ضاعفت من «الشراكة غير المحدودة» مع موسكو.
الحرب الأوكرانية قد وفرت أساساً للصين وأوروبا للتحرك نحو بعضهما البعض، فقضية أوكرانيا ليست مأزقاً في العلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي، فهناك قناعة لدى الاتحاد بأن أوراق الحرب الأوكرانية معظمها لدى القيادة الروسية، وأن الصين بثقلها الدولي وبقربها من موسكو يجعل منها أبرز قوة في التأثير على مسارات هذه الحرب ووضع حد لها، لنهايتها.