منذ ثمانية وستين عاماً، وبالتحديد في الفترة من 18 إلى 24 أبريل عام 1955 في مدينة باندونغ في إندونيسيا، عقد المؤتمر الأول لحركة عدم الانحياز، وشارك فيه رؤساء وقادة 29 دولة، من بينها 9 دول عربية، كانت قد حصلت على استقلالها بعد الحقبة الاستعمارية الأوروبية.

وحملت الحركة منذ مؤتمر انطلاقها الأول، أسماء وبصمات عدد من قادة دول ما كان يسمى حينها بالعالم الثالث، من أبرزهم المصري جمال عبد الناصر، والهندي جواهر لال نهرو، واليوغسلافي جوزيف بروز تيتو، والغاني كوامي نكروما، والإندونيسي أحمد سوكارنو وغيرهم. ومنذ انعقاد هذا المؤتمر الأول للحركة، وحتى مؤتمرها الثامن عشر، الذي انعقد في باكو عاصمة أذربيجان في 25 و26 أكتوبر عام 2019، كان عدد الدول الأعضاء فيها قد وصل إلى 120 دولة عضوة.

وحديثنا اليوم عن حركة عدم الانحياز ليس مجرد تذكر لمؤتمر تأسيسها ولا لمسيرتها الطويلة، خلال ما يقارب السبعين عاماً، ولكنه مرتبط بما يجري في العالم ونظاميه السياسي والاقتصادي من تطورات كبرى، منذ اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية قبل أكثر من عام، بعضها ليس بعيداً عن السياقات التي نشأت الحركة ضمنها قبل هذه العقود السبعة.

فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، دخل العالم إلى حالة استقطاب ثنائي حاد استمرت حتى عام 1991، فيما أطلق عليه الحرب الباردة، بين المعسكرين الشرقي الاشتراكي الذي قاده الاتحاد السوفييتي، والذي انهار وتفكك في هذا العام، والغربي الليبرالي الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد تأسست هذه الحرب التي قسمت العالم على استخدام الولايات المتحدة للقنابل النووية في قصف اليابان، مع نهاية الحرب العالمية الثانية، ولحاق الاتحاد السوفييتي بها عام 1947، بتفجير قنبلته الذرية الأولى، وبعدها تأسيس حلف شمال الأطلنطي، الذي يضم القوى الغربية، وتقوده واشنطن عام 1949، وبعده حلف وارسو عام 1955 الاشتراكي الشرقي، بقيادة موسكو. وتوالت بعد هذا حلقات الحرب الباردة المتتالية، وأزماتها الخطيرة، وسط انقسام دولي واضح، وسباق تسلح حثيث، هدد العالم أكثر من مرة بمواجهات عسكرية خطيرة، كانت أبرزها الحرب الكورية بين عامي 1950 و1953، وأزمة الصواريخ الكوبية عام 1962.

في مواجهة هذا السياق الانقسامي بين كتلتين متصارعتين كبيرتين، وجدت دول حركة عدم الانحياز المؤسسة نفسها أمام ضرورة تمييز نفسها وشعوبها عن هذا السياق، سعياً وراء الحفاظ على أمنها ومصالحها، فبرزت فكرة تأسيس الحركة، لتكون تياراً مستقلاً عن الكتلتين، وليس تحالفاً ثالثاً في مواجهة أي منهما.

وامتلكت حركة عدم الانحياز خلال تلك العقود السبعة هيكلها التنظيمي وقممها المنتظمة، إلا أن فعاليتها قد تراجعت كثيراً بعد انتهاء الحرب الباردة، واختفاء القطب الشرقي بعد تفكك قائده الاتحاد السوفييتي، وانفراد الولايات المتحدة بقيادة القطب الغربي الواحد والعالم منذ ذلك الوقت.

وبعد كل هذه السنوات، واندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية قبل أكثر من عام، راح النظام العالمي يتجه بصورة سريعة إلى استقطاب جديد غير مسبوق منذ نهاية الحرب الباردة. وحملت تطورات هذا الاستقطاب معها ملامح انقسامات اقتصادية وتجارية، وبالطبع سياسية، كان كثيرون يتصورون اختفاءها إلى الأبد، وبصورة أيضاً سريعة، بدا واضحاً أن كثيراً من الدول المنخرطة في حركة عدم الانحياز، قد راحت تتحرك في مسارات عديدة سياسية ودبلوماسية واقتصادية وتجارية ومالية، لكي تميز نفسها عن حالة الاستقطاب الجديدة التي تجتاح العالم من جديد، بين موسكو وواشنطن، وحلفاء كل منهما.

وقد ظهرت محاولات التمييز هذه في المحافل الدولية، مثل الأمم المتحدة وهيئاتها ووكالاتها، وأيضاً في التحركات واللقاءات الإقليمية والدولية التي حملت بذور وملامح إصرار معظم دول حركة عدم الانحياز، على النأي بنفسها عن الاستقطاب الجديد والانحياز لأحد طرفيه، وعدم استجابة عدد كبير منها للضغوط الغربية والأمريكية، لإعلان انحيازها للتحالف الغربي في مواجهة روسيا.

وليس هذا فقط، بل واصلت دول كثيرة منها اتصالاتها وعلاقاتها الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية مع موسكو، مع الحفاظ على اتفاقاتها وعلاقاتها الجوهرية مع واشنطن، ومختلف دول التحالف الغربي الأوروبية.

وبدا واضحاً من كثير من المؤشرات المتتالية، أن عالم الاستقطاب الثنائي الجديد الآخذ في التصاعد، قد خلق بموازاته إحياءً من نوع جديد لحركة عدم الانحياز، ربما لا يحمل نفس الاسم، ولكنه يحتفظ بذات الجوهر الذي عبّرت عنه مبادئ الحركة العشرة التي تأسست عليها في مؤتمر باندونغ، إنها بالقطع حركة عالمية جديدة في طور المخاض.