هنا كان مكاني، في الطرف الأيمن لتلك القاعة الصماء، بين ضلعي زاوية ضيقة التجأت كالذي يلتجئ إلى سرب ويختفي فيه؛ رغم ذاك الصخب كان هناك نقاش أصم لا يسمع ولا يقرأ ولا أثر له، حاولت أن أصغي إليهم وباهتمام بالغ، وأن أضفي بريقاً على حديثهم، لعلي أخرج من هذا الحشد بشيء ما، إلا أنني كنت كذلك الصباغ الذي يسعى ليلمع نسيجه بألوان مختلفة لينال مزيجه إعجاب الجميع، إلا أنه لم يكن كذلك، كان كالذي يريق الماء ويزيد عليه، حتى يختل الخليط ولم يعد لذاك المذاق طعم. كثيراً ما كنت أشعر باختفاء أصواتهم من بين أضلعي، لماذا لم يكن صوتهم كتلك الرقعة، الشجرة العظيمة التي لطالما تميزت بساق كالدلب وورق كورق القرع؟، أما عن ثمرها فكان كالتين.
كان صوتهم أضعف من صوت الورشان ذلك الطائر الذي يمضي حياته مهاجراً ولا يتسع لقلبه وطن. ومع ذلك شاركتهم الجلسة، وكما يعلم الجميع أنه مهما كان الوجه الحضاري لنا فلا يخلو نقاشنا من تلك النقاشات الحادة، فالكل منا يظهر تعصباً شديداً لأفكاره، ولا يتنازل عنها، ومع ظهور بطلانها أحياناً، ولكننا ننظر إليها بإعجاب شديد.
سرحت بأفكاري بعيداً عن ذاك الضجيج، ذهب فكري إلى الكاتب والشاعر الروسي رسول حمزاتوف الذي تميز بأسلوبه الجميل، صحيح أن رسول حمزاتوف روسي الجنسية، إلا أنه ولد في داغستان، وله من الأفكار والآراء ما يذهل بها العقل، يقول الداغستاني: إن الطائرة قبل أن تطير تثير كثيراً من الضجة، وبعد أن تذرع المطار لتصل إلى المدرج تثير ضجة أكبر، قبل أن تندفع وتطير، وهكذا لا تقلع الطائرة في الهواء إلا بعد أن تتم استعدادها هذا كله. فلا أستطيع سبر أغوار هذا الكاتب وكتابه الفريد من نوعه إلا بهذه المقدمة، والتي قد تكون طويلة نوعاً ما، ولكنك بهذا المثل البسيط تستطيع من خلاله تتذوق طعم رسول حمزاتوف.
يرسم الروائي خطوط شخصياته بدقة، مستحضراً بذلك تاريخ أمة اشتهر رجالها بالقوة والاستبسال والعنفوان. يسترسل الكاتب في سرديات ليشيع في نفس القارئ ومن خلال أسلوبه الرائع ذاك الحس المرهف والاندماج إلى حد التماهي.
كانت تعيش في إحدى القرى فتاة صماء، وذات يوم أرسل شاب من قرية أخرى لم يكن يعرف عن صممها من يخطبها له. وتم الأمر وبدأ العرس، كان في العرس جمع غفير، وكانت العروس لا تريد أن يعرف جميع القادمين إلى العرس أنها صماء. فطلبت إلى صديقة لها أن تجلس بجانبها وأن تقرصها في كتفها اليسرى إذا كان هناك شيء مفرح يدعو للضحك، وأن تقرصها في كتفها اليمنى إذا كان هناك شيء محزن.
سار الأمر بعض الوقت على ما يرام، كانت العروس تضحك حين كان يجب أن تضحك، وتغتم حين كان يغتم من حولها.
لكن صديقتها نسيت فيما بعد ما اتفقتا عليه، وارتبكت، فصارت تقرصها من الناحية اليمنى في حين كان المفروض أن تقرصها من الناحية اليسرى وبالعكس، صارت العروس تقهقه في أوقات كان يجب فيها أن تحزن، وتئن وتتنهد أسى حين كان الفرح يعم الجميع، أخذ الشاب يتفرس في عروسه ويتتبع حركاتها. هناك خطب ما وفي نهاية الأمر لم يتوفق في ذلك.
وهكذا، على الكاتب الحقيقي ألا يحتاج إلى من يقرصه من اليمين تارة، ومن اليسار تارة أخرى كتلك العروس الصماء. وجع قلبه هو، وفرحه هو، هما اللذان يجبرانه على الإمساك بالقلم. فليفرح الجميع حين يفرح الكاتب، وليعتصر الألم القلوب الجميع حين يفضي الشاعر لهم بوجع قلبه.
سقطت الأقنعة عن تلكَ الحروف وسمع الجميع استغاثتها، استصرخت؛ ألا من مغيث؟
سجن لسانها ثم قالت: أبلى الثوب يا سادة، ساقت الرياح السحاب فجاءت به أمامي حتى كادت أن توجأ عنقي، لاث الضباب بتلك الجبال تعكراً بعد أن هدر في تلك الصدور، فأمثالكم لا يزيد التاريخ إلا عبثاً، فإني لا أرى سوى أقنعة تفتقد الهوية.