قبل أكثر من أربعة عشر عاماً كان لمدينة دبي موعد مع إنجاز واحد من أهمّ المشاريع الحيوية التي كانت تحتاج إلى قرار جريء يتجاوز مشاعر الحذر وهواجس التردد التي يمكن أن تنشأ لدى مخططي المدن بسبب عدم مواتاة الظروف لاتخاذ القرار، فقد اتخذ صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، قراراً في غاية الأهمية والاستثنائية تمثل في إنشاء مترو دبي في ظروف كان صعباً فيها تقبل فكرة المترو ضمن الثقافة العامة للمواطنين فضلاً عن كون هذا المشروع خارج اهتمامات المنطقة على المستوى الإقليمي، ولكن حكومة دبي كانت تعي حجم التحديات وحجم الفوائد المتوقعة عن اتخاذ هذه الخطوة التاريخية التي هي حلقة من سلسلة متماسكة الحلقات من القرارات الصعبة التي صنعت تاريخ دبي عبر 185 عاماً من البحث عن الذات الحضارية لهذه المدينة الزاهرة التي شهدت حزمة عميقة من التحولات عبر مسيرتها الواثقة نحو تحقيق مكانة حضارية واقتصادية فريدة تجعل منها وجهة عالمية مهما كانت الظروف والتحديات.

وبهذه المناسبة السعيدة كتب صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد تغريدة على حسابه في «تويتر» احتفى فيها بهذا الإنجاز الرائع لمدينته التي يعشقها ويكتب تاريخها بالإنجاز والإبداع الذي يصل إلى حدود المغامرة، مؤكداً عمق الحكمة التي تصاحب مثل هذه القرارات الجريئة حيث قال: وصل اليوم عدد ركاب مترو دبي إلى 2 مليار راكب منذ افتتاحه في 9/9/ 2009.

وهذا يعني أنّ معدّل حركة الركاب السنوية تزيد على 150 مليون راكب، وهذه نسبة بالغة الدلالة على الحركة النشيطة لهذه المدينة الحديثة التي تعجّ بالحركة وتستقطب سنوياً الملايين من الزوار والسياح والمستثمرين، مما ينعكس على حركتها الاقتصادية ويمنحها هذا الطابع الفريد الذي جعلها مدينة عالمية تمتلك بنية تحتية في غاية القوة والتميز تأهلت معها لاستقبال واحد من أعظم الأحداث العالمية تمثل في معرض إكسبو دبي 2020 الذي كان علامة فارقة في تاريخ المعرض بشكل عام وفي تاريخ دبي على وجه الخصوص.

ثم يتابع صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد حديثه كاشفاً عن بعض التفاصيل التي تعزّز نجاح هذا المشروع الحيوي الذي منح دبي ميزة تنافسية حيث يقول: عدد قطاراته 129 قطاراً، وعدد محطاته 53 محطة، وعدد ركّابه يومياً يتجاوز 600 ألف ونسبة الالتزام بمواعيده 99.7%. وهي أرقام تدل على ضخامة المنجز الحضاري لهذا المشروع الكبير لمدينة دبي، ولكن المهمّ هو درجة الالتزام الدقيقة بالمواعيد والتي تكشف عن حجم السيطرة على هذه الحركة النشيطة الكثيفة لهذا المترو العملاق.

ثم يعود بنا صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد إلى الظروف السابقة على إنشاء المترو وكيف أنّ ذلك كان محفوفاً بالتحديات والصعوبات وعدم تقبل المجتمع للفكرة حيث يقول: «لم تكن فكرة مترو دبي مألوفة في المنطقة، ولم تكن ثقافته مقبولة، ولم يكن قراره متفقاً عليه من أغلب المسؤولين، ولكن المسؤولية تطلبت منا اتخاذ قرار غير مألوف وغير مقبول، وأنجزنا ما وعدنا، وفعلنا ما قلنا».

ففي هذا الجزء المهم من التغريدة يؤكّد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد طبيعة الظروف التي اكتنفت اتخاذ هذا القرار الجريء حيث كان المشروع غريباً على المزاج العام لمنطقة الخليج فضلاً عن عدم تقبّله على المستوى الثقافي وما يرتبط به من عادات وتقاليد ربما لا تنسجم مع فكرة المترو التي هي من صميم الحياة الغربية التي قطعت شوطاً طويلاً في التحديث وتزعزع فيها الكثير من القيم الاجتماعية والثقافية لصالح الصالح العام، فكان ذلك مثيراً للقلق والتردد ولم يتم الاتفاق عليه بالإجماع ولكنّ صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد كانت بصيرته تهديه إلى أنّ هذا المشروع سيكون أحد المشاريع الكبرى التي تحتاج إلى موقف خاص يستنقذ به دبي من مشكلة المواصلات وينتقل بها نقلة حضارية تحقق لها المزيد من المكاسب وتفتح أمامها العديد من الآفاق، فلم يتردد في اتخاذ القرار الذي كان تحولاً تاريخياً في مسيرة دبي الحضارية واقترن القول بالفعل، وتجاوز صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد بهذا القرار الشجاع كل المخاوف التي كانت تختلج صدور المسؤولين المشاركين في اتخاذ القرار.

ثم كانت هذه الخاتمة الرائعة لهذه التغريدة الملهمة وهي الحكمة المستفادة من هذا القرار الجريء حيث قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد: «الحكمة: في لحظات اتخاذ القرارات الصعبة.. أسوأ خيار هو عدم اتخاذ قرار، لأنه في هذه اللحظات تصنع أقدار الدول والمجتمعات».

لتظلّ مسيرة دبي في صنع تاريخها هي قضية القدرة على اتخاذ القرارات الصعبة، وهو الشيء الذي ورثه صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد عن والده باني دبي المغفور له بإذن الله الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، رحمه الله، الذي اتخذ مجموعة من القرارات المصيرية في نهضة دبي مثل ميناء جبل علي وإنشاء مطار في دبي، وبناء الموانئ وتوسيع الخور، وتطوير المناطق الحرة، وكلا الشيخين القائدين: راشد بن سعيد ومحمد بن راشد هما امتداد أصيل وتنفيذ ناضج لوصية الجدّ المؤسس سعيد بن مكتوم رحمه الله الذي رسّخ فكرة التنوع الاقتصادي في مسيرة دبي وعدم الاعتماد على مصدرٍ واحدٍ للدخل، وهي بحسب عبارة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد الوصية الرابعة غير المكتوبة في دستور دبي التي تستلهم مسيرتها من حكمة الآباء، وتكتب سيرتها بمداد العزم والتصميم والفروسية الإدارية التي جعلتها وجهة عالمية ومدينة لا تهدأ فيها حركة الحياة، ولا تخبو فيها نار التجدد والإبداع.