وُصفت العشرية السوداء، التي تلت سقوط نظام «بن علي» في تونس بالعهد الديمقراطي، أما الواصفون فهم جماعة الإخوان وحلفاؤهم الغربيون والعرب، هؤلاء لا يكفون عن التباكي على الديمقراطية، التي ابتلعتها أنظمة الاستبداد في النظام العربي في أحشاء أطماعها، عقب ما سمي «ثورات الربيع العربي». وليس مهماً بطبيعة الحال التذكير بما بات مجرباً ومؤكداً أن تلك الثورات التي جرى التخطيط لها في أجهزة مخابرات غربية وإقليمية شديدة البأس قد أجهزت على البقية الباقية من معالم الدولة الوطنية، لتمكين جماعة الإخوان من الوثوب إلى حكمها، وليس مهماً كذلك أن يغزو «الربيع» سوريا وليبيا واليمن فيقسم دولها، ويرنو الآن إلى مزيد من الانقسام في الدولة السودانية.
كانت حركة حماس قد سبقت ما سمي «الربيع العربي» بخمس خطوات، فانشقت عن السلطة الوطنية الفلسطينية في غزة، يحكمها قادتها من فنادق سبع نجوم من خارجها، ليعززوا الانقسام الفلسطيني، ويقدموا ذرائع أخرى، لتأكيد إسرائيل أنها دولة دينية، فتزوي القضية الفلسطينية، وتهمش في جدول أعمال المجتمع الدولي، ويغدو أكثر من مليوني فلسطيني رهينة لدى قادة الحركة، يتنقلون من خندق إلى آخر، تحاشياً للغارات الإسرائيلية، دفعاً لأثمان خيارات سياسة، لم يستشرهم فيها أحد.
وفي تونس، أدرك الرئيس التونسي المنتخب قيس سعيد، بعد عناء أن بقاء «إخوان النهضة» في الحكم أو في خارجه خطر داهم على مؤسسات الدولة ومستقبلها، وسلام البلاد الاجتماعي، فعقد كامل من بسط سيطرتها على مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية انتهى بإفلاس تونس، وتحولها لساحة مواتية لحرب أهلية، لكى تتمكن «الجماعة» من احتكار القرار السياسي ومقدرات البلاد بين أيديها، وحرمان الآخرين منها، وهدم مقومات الدولة الحداثية، التي أرسى الحبيب بورقيبة دعائمها.
وبدعم شعبي كبير، وبإجراء وراء آخر أخذ قيس سعيد، يقلص من تأثيرات «النهضة» الضارة، ويحاصر نفوذها المصنوع، كما استغلت «النهضة» ضعف الأحزاب والقوى السياسية، لفرض هيمنتها على الحياة السياسية، وقطف ثمار تغيير لم تشارك فيه، ساعد هذا العامل نفسه الرئيس التونسي، في المضي قدماً لتنفيذ مشروعه بحل البرلمان، وتعديل الدستور، وتغيير النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي، وملاحقة الفساد ومحاكمة مرتكبيه، لتخليص تونس من جماعة دينية مغامرة، ومحاصرة نتائج سياساتها الفاشلة.
حظيت تلك الإجراءات بترحيب شعبي كبير من الجمهور، الذي دعم نجاح قيس سعيد، في انتخابات الرئاسة، بعد أن فقد الثقة بقدرة النخب السياسية المتصارعة على حل مشاكل تونس المتفاقمة، وتكشفت أمام الجمهور ملامح الانتهازية السياسية، التي قادت أطرافاً مدنية ويسارية تزعم أنها مستقلة، للتحالف مع حركة النهضة، والاصطفاف معها، للاستقواء بها، للعودة مجدداً لممارسة النشاط بحرية في الساحة السياسية.
قرار النيابة العمومية المعنية بمكافحة الإرهاب إلقاء القبض على زعيم الحركة راشد الغنوشي، وإيداعه السجن على ذمة التحقيقات أبعد مدى من مجرد مساءلته عن تصريحاته، التي فيها «إن تونس بدون النهضة والإسلام السياسي واليسار مشروع حرب أهلية»، وهو ما اعتبرته النيابة تحريضاً على العنف، فالنهضة متهمة باغتيالات لمعارضين لها، وبتكديس أسلحة في تنظيمها السري، الذي يشرف عليه الغنوشي نفسه، بعد أن ساعدته جماعة الإخوان المصرية على تأسيسه، وأعضاء من الحركة وأنصارها، بينهم قضاة ورجال أعمال وسياسيون يحاكمون بتهم التربح من المال العام والفساد المالي والإداري، وتسييس القضاء، وغسيل أموال، وفتح معسكرات لتدريب وتوريد متطوعين، للمشاركة في الحروب الأهلية الناشبة في دول المنطقة.
تحرير تونس من جماعة إرهابية مغامرة ترفع شعارات دينية فرضت وجودها في الساحة السياسية بالتلاعب بآليات الديمقراطية الشكلية، التي قصرتها على صندوق انتخابي مشكوك في نزاهته وحيدته، وأفرغتها من أي مضمون اقتصادي تنموي واجتماعي، هو الهدف الذي يرنو إليه قيس سعيد، لإعادة بناء مؤسسات الدولة الوطنية، بما يخدم مصالح الشعب التونسي، ويدعم نظامها السياسي الذي أصبح رئاسياً، ويحرره من جماعات المصالح الحزبية المتنافسة، التي اتخذت من نظام الغنوشي البرلماني أداة لتعزيز مكاسبها.
أفقدت إجراءات الرئيس التونسي قيس سعيد، حركة النهضة المنقسمة على نفسها، وأذرعها المدنية واليسارية صوابهم، وها هم يتناوبون الظهور الإعلامي في الفضائيات الدولية، يولولون على ديمقراطية عصر الغنوشي المهدرة، ويحرضون مؤسسات المال الدولية لرفض دعم الاقتصاد التونسي المتهاوي، ويستقوون بالخارج لحث الدول على التدخل لمواجهة نظام قيس سعيد وإسقاطه، والمضحك أنهم يفعلون ذلك وهم يزعمون الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية، وحريات الرأي والتعبير، فيا لها من فضيحة، ويا له من مشهد عبثي ساخر، فشل يوم كانت في يدهم السلطة ولا يخجلون من تكراره وهم خارجها.