يحتاج الفنان مشواراً طويلاً قبل أن يتعرف الجمهور على اسمه، ويحتاج مشواراً أطول وعملاً شاقاً وموهبة فذة كي يتقبل أعماله، واشتغالاً كبيراً على تطوير أدواته وموهبته، كي يحظى بإشادته ويترقب جديده، والأصعب أن يتذكره بعد غياب.

الكثير مما سبق لم يحتج إليه الفنان الإماراتي الشاب ماجد الفلاسي الذي توفي الأحد الماضي، وهو النبأ الذي فجع به الملايين، ممن لا يزالون يتذكرون أداءه الصوتي لشخصية «أم سعيد»، في المسلسل الكرتوني المحلي الشهير «فريج».

عمل واحد فقط في مسلسل رسوم متحركة متعدد الأجزاء، لم تتح خلاله أن يبصر المشاهد صورته، ولا ملامحه، أو حتى يستمع إلى صوته الحقيقي، قبل التدخلات الفنية، وتغيير نبرته طبقاً لمقتضيات الدور.

نعم عمل واحد فقط توقف قبل سنوات عديدة، لكن توالي سنوات الغياب عن الشاشة.. لم يتسبب في نسيان مبدع أجاد في دوره الوحيد.

حظيت شخصياً في العام 2006، منذ الجزء الأول من «فريج»، وما تلاه بمقابلة الفنان الراحل، عبر لقاءات جمعتنا بصديقه مخرج المسلسل محمد سعيد حارب، الذي كشف حينها عن أسباب اختياره الفلاسي لأداء هذه الشخصية، والتشجيع المتبادل بينهما على الذهاب بعيداً في هذا العمل، الذي ظل جزءاً من طقوس المشاهدة الرمضانية محلياً وخليجياً، يجمع الأسرة بمختلف شرائحها، وربما كبارها قبل صغارها.

لم يكن ماجد الفلاسي بحكم نص «فريج» نجماً منفرداً للعمل، حيث يدور المحتوى عن عجائز أربع يعشن متجاورات في «فريج»، ولكل منهن طباعها وعاداتها ضمن قالب تراثي كوميدي، لكن الإجادة، والإصرار على تقديم الدور وفق نسق إبداعي عالٍ، وقبل ذلك النص الجيد، والمخرج الجريء الذي قاد شباباً تواقين لأن يتركوا بصمة مميزة للمشاهد، وإيمان مؤسسة دبي للإعلام بهم وبحلمهم وموهبتهم، أسهم في تقديم واحد من أهم الأعمال المحلية ذات الجماهيرية الكبرى على شاشته.

مشوار ماجد الفلاسي القصير زمناً، في عالم الفن، البعيد كل البعد عن الكم، والمنحاز تماماً لفكرة النوع على حساب نقيضه، قد يكون الأكثر دلالة محلياً وعربياً، على أن الأعمال الفنية بجودتها لا بكثرتها، وأن البقاء في ذاكرة الجمهور لا يزال للأفضل، وليس للأكثر انتشاراً.

الفنان صاحب العمل الواحد، الذي لم يظهر فيه لا بوجهه، ولا بصوته الحقيقي، وظل بعيداً عن الظهور واللقاءات الإعلامية، لم يشكُ أن الشخصية التي صنع بصوته ألقها وخصوصيتها «أم سعيد»، هي من تحظى بحديث الناس واهتمامهم، وهو الواقع الذي يؤكد بدوره نجاحه الفني، بل على العكس استجاب لمقتضيات هذه النوعية من الأعمال، التي تتطلب مزيداً من الظل لأبطالها الحقيقيين، كي تحتفظ الشخصية الفنية بدائرة الضوء واهتمام جمهور المشاهدين.

بعد كل هذا نقول: ماذا لو لم يقبل الشاب ماجد الفلاسي العام 2006 القيام بالأداء الصوتي لشخصية «أم سعيد»، حيث كان عمره وقتها نحو 17 عاماً؟ أو لم يحظ بالدعم الأسري لإبراز موهبته؟ وبالأحرى ماذا لو مر أداؤه في هذا الدور مرور الكرام دون أن يترك أثراً لدى مشاهديه وقتها.. وإلى أي مدى كانت ستحتفظ ذاكرتهم بالأساس بشخصية «أم سعيد» ضمن شخصيات المسلسل؟

رحم الله الراحل ماجد بخيت الفلاسي، فقيد الفن الإماراتي، وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان.