دعا الرئيس الفرنسي ماكرون في تصريح له لصحيفة «ليزيكو» الفرنسية في التاسع من أبريل 2023 إلى عدم الدخول في ما أسماه «منطق الكتلة مقابل الكتلة» في الموقف من قضية تايوان وعدم التبعية في الموقف، سواء لواشنطن أو لبكين، مضيفاً أن «أسوأ شيء هو الاعتقاد أننا -نحن الأوروبيين- يجب أن نكون أتباعاً».
أهمية هذا التصريح تكمن في أنه جاء بُعيد عودته من زيارة قام بها إلى بكين في الخامس من أبريل الماضي مصحوباً برئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين في مسعى يتعلق بالحرب الدائرة في أوكرانيا من جهة وحرصه على الكلام بلسان الأوروبيين من جهة أخرى.
تصريحات أثارت القلق في واشنطن وفي بعض العواصم الغربية وأثارت تساؤلات حول ما يمكن أن تثير من انقسامات في الأوساط الغربية اتجاه الموقف من الصين.
والحقيقة أن المتابع للعلاقات الأمريكية الفرنسية على مر عشرات السنين لن يفوته أن يلحظ بأنها كانت على الدوام عرضة لشتى الأزمات، لا سيما وأن فرنسا لها اعتزاز خاص بما تسميه «الخصوصية الفرنسية» التي تراها لم تأخذ أبعادها في العلاقة مع واشنطن، وبشكل خاص من خلال عضويتها في حلف «الناتو».
عبرت فرنسا عن خصوصيتها هذه بالموقف الذي اتخذه الرئيس شارل ديغول بالانسحاب من «الناتو» على مراحل بدأت أولها في العام 1959 لتستمر حتى العام 1966 حين أبلغ نظيره الأمريكي ليندون جونسون عن رغبة بلاده مغادرة القيادة الموحدة للحلف وإنهاء تبعية القوات الفرنسية للأوامر الدولية دون الرحيل بشكل تام عن الحلف.
مؤكداً رغبة بلاده في استعادة السيادة على أراضيها مطالباً بضرورة رحيل القوات الأمريكية والكندية. وقد استمرت مقاطعة فرنسا لـ«الناتو» حتى العام 2009 حيث عادت رسمياً للقيادة العسكرية الموحدة للحلف أثناء فترة حكم الرئيس نيكولا ساركوزي بعد غياب استمر لنحو 43 عاماً.
ولعل آخر تعثر في العلاقة بين باريس وواشنطن هو ما جرى في «صفقة القرن» التي كانت أستراليا قد وقعتها مع مجموعة «نافال» المملوكة للدولة الفرنسية عام 2016 لبناء 12 غواصة تقليدية تعمل بالديزل بقيمة 66 مليار دولار أمريكي.
صفقة عمدت أستراليا مؤخراً إلى الاعتذار عن إتمامها مستبدلة إياها بصفقة أخرى تحصل بموجبها على ثماني غواصات نووية من الولايات المتحدة وبريطانيا بعد تشكيل حلف بحري مع هاتين الدولتين مقدمة مع اعتذارها تعويضاً قدره 585 مليون دولار إلى مجموعة «نافال» الفرنسية.
ولكن ذلك لم يعالج الصدع السياسي الذي حصل بين واشنطن وباريس جراء تراجع أستراليا عن تنفيذ الصفقة، صدع حرصت واشنطن على رأبه بسرعة في ظل الظروف الدولية المعقدة التي فرضتها الحرب في أوكرانيا، فقد بعثت نائبة الرئيس كامالا هاريس لمعالجة ذلك وسط ترحيب الرئيس الفرنسي معلناً «نحن متفقون على القول إننا نبدأ حقبة جديدة، وعلى الأهمية البالغة للتعاون».
هكذا كانت صورة العلاقات بين باريس وواشنطن على مدى عقود من الزمن تتسم بالتقارب والتحالف في بعض الأحيان وبالتعارض في أحيان أخرى، كما ذهب الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك عام 1995 واصفاً إياها بالقول بأن «العلاقات بين الولايات المتحدة وفرنسا كانت وستظل دائماً متعارضة وممتازة»، مقولة لا تزال صالحة حتى الآن رغم مرور ما يقرب من ثلاثة عقود على قولها.
والحقيقة أن دعوة الرئيس ماكرون التي نحن بصددها لم تلق صدى إيجابياً في العواصم الأوروبية وليس من المتوقع في ضوء تعقد الأزمة الأوكرانية أن يصدر عن بعض قادتها تعاطف معها، خاصة أنها جاءت بعد فشل الجهود الحثيثة التي بذلها الرئيس ماكرون مع الرئيس الروسي بوتين في إقناعه باعتماد نهج أقل عنفاً في التعامل مع الأزمة الأوكرانية خلال الفترة التي سبقت الاجتياح الروسي.
إلا أنه ومن جانب آخر لا يمكن القول بأن جميع القادة الأوروبيين على قلب رجل واحد، لذا من المرجح أن تبقى هذه الدعوة مطروحة في الخفاء على طاولة النقاشات بين بعض هؤلاء القادة.
ثمة أمر آخر ليس في صالح دعوة الرئيس ماكرون، فهي بعيدة عن الواقع في تقدير حجم أوروبا عسكرياً وقدرتها على الدفاع عن نفسها بمعزل عن المظلة الأمريكية وترسانتها النووية وأساطيلها البحرية. فالقوة النووية الوحيدة في الاتحاد الأوروبي هي فرنسا وهي قوة نووية متواضعة، إذ لا يسعنا إدخال بريطانيا في أوروبا المستقلة أمنياً عن واشنطن فهي حليف منحاز بالكامل إلى جانب واشنطن.
* كاتب عراقي