التبريد.. الحاجة أم الاختراع

لطالما كنت اسأل نفسي، كيف برعت بلاد فارس في صناعة الفالوذج (أيسكريم) أو المثلجات المنعشة في لغتنا؟

وحينما تتبع تاريخهم تجد ما يسمى اليخجال أو «اليخشال» وهو شكل مخروطي أشبه بالثلاجات أو المخزن في بلاد فارس والذي بدأ قبل 400 عام لحفظ الأطعمة أطول فترة ممكنة. ويقوم هذا المخزن الأشبه بالهرم بعزل الحرارة الخارجية وفيه يتولد الجليد في عملية تبخر الماء، عبر سلسلة من أبراج الرياح فقد وجد الفرس حلهم من جدران بنيت من الرمال والطين والرماد والجير وخليط من المواد الأخرى.

وحينما نعود بعجلة التاريخ لنحو ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد نجد أن المصريين القدماء قد استخدموا أيضاً وسائل تبريد صنعوا منها الثلج وهم في إقليم صحراوي حيث كانت المرأة المصرية تضع الماء في آنية فخارية على فراش من القش، فتبدأ عملية التبخر باتجاه الآنية الفخارية مستفيدة من انخفاض درجات الحرارة ليلاً، الأمر الذي يساعد على تجمد الماء.

وبالرغم من نجاح المرأة المصرية القديمة في تكوين طبقة جليدية على سطح الماء إلا أن توافر الأجواء الملائمة من برودة ليلية وجفاف يسهم في تحويل الماء إلى قوالب جليدية، بحسب ما ذكره الكتاب الشائق «قصة العادات والتقاليد وأصل الأشياء».

ويضيف المؤلف تشارلز بناتاي أن التاجر البابلي قد صمم أول نظام تكييف للهواء في العالم وذلك في قصره في سنة 2000 قبل الميلاد فكانت فكرته تقوم على رش الخدم الماء عند الغروب على الجدران والأرضيات المعرضة للهواء وذلك لتبدأ عملية التبخر مع انخفاض درجة الحرارة ليلاً، فتبدأ الجدران بتخزين البرودة الأمر الذي يمكن الاستفادة منه في ساعات النهار.

ونجح الهنود قديماً في عمليات التبريد عبر البخر بترطيب حزمة من العشب الرطب التي توضع على الفتحات المواجهة لتيارات الهواء في منازلهم، ويبقون تلك الأعشاب رطبة طوال اليوم بتبليلها يدوياً أو عبر أنابيب مثبتة فوق النوافذ لكي يقطر منها الماء على العشب.

وبعد تطور الإنسان وتمدن الحياة العصرية، شهدت الولايات المتحدة الأمريكية محاولات جادة في هذا المجال، ومنها تبريد مسرح «فاديسون سكوير» في مدينة نيويورك في الصيف القائظ في نهاية القرن التاسع عشر، وذلك عبر تبريد قاعاتها بغمس أنابيب الهواء في خليط من الجليد والملح وتدوير الهواء المبرد بوساطة مراوح. غير أنها كانت عملية مكلفة جداً إذ تستهلك تلك القاعة في ليلة واحدة نحو 4 أطنان من الثلج.

وشيئاً فشيئاً دخل مفهوم «تكييف الهواء» في مفردات العالم، ويعود الفضل للعالم الفيزيائي «ستيورات كرامر» الذي قدم نحو 1907 موضوعات عن آلية التحكم بالرطوبة في معامل النسيج، في عرض كان يقدمه دورياً أمام جميع مصنعي القطن في الولايات المتحدة الأمريكية.

وأنا أتأمله يقوم بذلك، أتخيل أصوات المثبطين من حوله والذين لا يستوعبون السنن الكونية وإبداع العقل البشري في أن يجعل المستحيل ممكناً.

فمن كان يتوقع أن مشكلة صغيرة في معمل نسيج لم يكتب لها النجاح الباهر، تتحول إلى إمكان الإنسان من تكييف مدينة بكاملها بأقصى برودة ممكنة، فصار سوق تجاري كبير مثل الأفنيوز في الكويت أو «مول أوف أمريكا» يستهلك تكييفه فقط طاقة عشرات المناطق السكنية والقرى الصغيرة.

وبعد محاولات عديدة سابقة بزغ اسم جديد آنذاك، وهو الأمريكي «ويليس كاريير» الذي تمكن من إنتاج أول مكيفات تجارية للهواء في سنة 1914. والمفارقة أن هذا الشاب كان صبياً في مزرعة في شمالي ولاية نيويورك، ولكن جامعة كورنل قدرته بإعطائه منحة دراسية لدراسة الهندسة، فعكف على الاهتمام بالتدفئة وأنظمتها. وكم من فرد ضاعت مواهبه لأنه لم يجد بيئة تحتضنه.

كل تلك الجهود تراكمت عبر مدى السنين لتجسد قدرات البشر الهائلة في إيجاد قطاع هائل للتبريد الذي لا يمكن أن يستغني عنه أي مشروع تجاري وحي سكني. وتلك القصص تصور لنا أهمية رعاية المخترعين، ليسهموا في تقديم حلول ناجعة لمجتمعاتهم، فالحاجة أم الاختراع.

* كاتب كويتي متخصص في الإدارة

الأكثر مشاركة