قبل أسابيع قليلة كتبنا في هذه المساحة مقالاً بعنوان «نظام عالمي يتشكل وعالم عربي وشرق أوسط يلتئمان»، كانت فكرته الرئيسة أنه في الوقت الذي يشهد النظام العالمي وبصورة مضطردة منذ بدء الحرب الروسية – الأوكرانية في فبراير 2022 اضطراباً في ظل أنواع المواجهات بين طرفه الغربي بقيادة الولايات المتحدة وطرفه الشرقي تتقدمه روسيا، فإن العالم العربي خصوصاً وإقليم الشرق الأوسط عموماً يشهدان مساراً معاكساً، يتجه لتضميد الجراح وحل الصراعات والتنسيق الأوسع في المواقف تجاه ما يحدث في العالم.
وضربنا حينها عدداً من الأمثلة عما يدور حالياً - ومنذ شهور - في عالمنا العربي والإقليم من مصالحات وتقاربات، أدت في مجملها إلى تحسن واضح في أوضاع العالم العربي كتجمع إقليمي مهم تؤطره منظمته الإقليمية، أي جامعة الدول العربية.
ولعل القمة العربية الأخيرة رقم 32 التي عقدت يوم الجمعة الماضي في جدة بالمملكة العربية السعودية أبرزت في أعمالها وفي إعلانها النهائي كل المعاني التي تحدثنا عنها في المقال المشار إليه. فقد شهدت هذه القمة حضوراً دولياً غير عربي لم تشهده أي قمم عربية سابقة.
فمن المعتاد والمستقر عليه في القمم العربية، أن الدولة المضيفة للقمة تدعو لحضور أعمالها ممثلين للمنظمات والكيانات الدولية الموجودة لديها رسمياً، وذلك بصفة دبلوماسية رمزية، ولم يسبق لأحد منهم أو من الجهات التي يمثلونها أن ألقى كلمات في القمة أو وجه رسائل إليها.
ولكن ما حدث في قمة جدة قبل أيام خرج عن هذا المألوف الدبلوماسي الرمزي، لكي تشهد للمرة الأولى في قمة عربية خالصة حضوراً لقيادات التفاعلات الدولية الساخنة التي تجري حالياً في العالم.
فبصورة مفاجئة للجميع، وصل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى جدة ليشارك بكلمة مباشرة أمام القمة العربية، عرض فيها وجهة نظر بلاده في الحرب الدائرة بينها وبين روسيا مهاجماً فيها السياسة الروسية، وساعياً إلى مخاطبة الدول العربية بما يعتقد أنه يدفعها إلى مساندة بلاده في حربها مع موسكو.
وأشار الرئيس الأوكراني إلى أنه سيقدم صيغته للسلام المكونة من 10 نقاط وسيسعى لإشراك أكبر عدد ممكن من البلدان، فضلاً عن بحث حماية الجالية المسلمة في شبه جزيرة القرم بأوكرانيا، معرباً عن ترحيبه بالاستثمارات والسياحة العربية في بلاده بعد تحريرها بحسب قوله من «الاحتلال الروسي».
وبصورة أيضاً غير مسبوقة، حضر خصمه المباشر الكبير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين برسالة وافية إلى القمة، أبرز فيها اهتمام بلده العالي بتوسيع التعاون متعدد الأوجه بينها وبين الدول العربية بما يلبي بشكل كامل مصالحهما المشتركة، ويتماشى - حسب قوله - مع بناء نظام دولي أكثر عدلاً وديمقراطية للعلاقات الدولية على أساس مبادئ التعددية القطبية والمساواة الحقيقية واحترام الاهتمامات الشرعية للجميع.
وأبرز الرئيس الروسي عزم بلاده مواصلة الدعم الفعال لجهود حل المشاكل الإقليمية الحادة بالطرق السلمية، بما في ذلك الأزمات في السودان واليمن وليبيا وسوريا، مركزاً بشكل خاص على القضية الفلسطينية استناداً إلى قرارات الأمم المتحدة ومبادرة السلام العربية.
وواصل الرئيس الصيني شي جين بينغ ما فعله في القمة العربية السابقة بالجزائر، حيث بعث برسالة تهنئة إلى العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، بمناسبة انعقاد القمة الـ32، مؤكداً فيها دور الجامعة العربية في تعزيز الوحدة العربية والسلام والاستقرار والتنمية في الشرق الأوسط، مشيداً بالصداقة الدائمة بين الصين والدول العربية، موضحاً أن الشراكة الاستراتيجية بين الصين والدول العربية استمرت في التطور وتحقيق نتائج مثمرة في السنوات الأخيرة، مشيراً إلى عقد القمة الأولى للصين والدول العربية بنجاح في الرياض، واتفاق القادة الصينيين والعرب على بناء مجتمع صيني عربي ذي مستقبل مشترك للعصر الجديد.
ما سبق كله، يشير بوضوح إلى رقم عربي جديد بدأ يتضح كثيراً في العلاقات الدولية التي تتفاعل الآن بشدة نحو تشكيل نظام دولي مختلف.
فالعالم العربي الذي يلملم جراحه الداخلية وينسق حثيثاً نحو مواقف مشتركة تجاه الأزمات الدولية السياسية والاقتصادية والمالية، أضحى مقصداً وساحة للأطراف الدولية الرئيسية لشرح مواقفها والبحث عن مساندته لها في الظروف الصعبة الحالية، وهو ما أكدته قمة جدة ويتطلب مزيداً من التنسيق العربي تجاه الأوضاع الدولية الراهنة لكي يزداد الثقل العربي فيها وتجني دول العرب وشعوبهم مزيداً من المصالح والحقوق التي يستحقونها.