جُلتُ في كل القنوات الفضائية الحوارية والتحليلية والاستراتيجية والإخبارية، بحثاً عن تعليق هنا أو مناقشة هناك، لتصريح الأمين العام للأمم المتحدة في قمة هيروشيما للدول السبع، فلم أجد شيئاً.
أين التصريح يا جماعة الحوار والمناقشة والبحث في «الفيما» وراء الخبر و«الفيما» أمامه والتفتيش في النوايا والقلوب؟ ذهب التصريح مع الريح كما يقول الفيلم الأمريكي الشهير، أو لعله راح في «الوبا» - أي اختفى في هوجة الوباء - كما قالت الأم لابنتها آمنة في فيلم «دعاء الكروان»، وهي تسأل مكلومة الفؤاد عن أختها هنادي، التي كان قد قتلها بدم بارد خال لها، ثأراً لجريمة شرف!
عادة ما يتمتع الأمين العام للأمم المتحدة بحرية في الحركة والتعليق على ما يجول حقاً وصدقاً في خواطره في شأن العمل الأممي، وهو يقضي دورته الثانية في رئاسة المنظمة الدولية، وهي الحالة الراهنة لأنطونيو غوتيريش فقد جرى العرف، أن ترشح الجمعية العامة للأمم المتحدة الأمين العام بتوصية من مجلس الأمن لدورة تمتد خمس سنوات، ولا يسمح له بشغل ذلك الموقع أكثر من دورتين متتاليتين، وهو ما يعني أن حق النقض من الدول الخمس الأعضاء في مجلس الأمن، يلاحقه إذا لم يتفق هؤلاء على اختياره، أو التمديد له.
الاستثناء من هذا التقليد، كان من نصيب العربي الوحيد الذي تقلد منصب الأمين العام للمنظمة الدولية الدكتور بطرس بطرس غالي، إذ جرت معاقبته على إصدار تقرير أممي يدين إسرائيل بشأن حرب لبنان سنة 1996، ورفضه الضغوط الغربية كافة التي مورست عليه، لحجب التقرير ومنع صدوره، فلم يتم التجديد له دورة ثانية، بطريقة معروفة، باتت مبعثاً للتشكيك في صدقية القرار الأممي. ولعل ذلك ما يمنح تصريح أنطونيو غوتيريش في قمة «هيروشيما» اليابانية أهمية قصوى، ربما تكشف أسباب عدم الالتفات إليه، وتفسر تجاهله!
وفى مؤتمر صحافي في هيروشيما، أعرب غوتيريش عن اعتقاده أن الوقت قد حان لإصلاح كل من مجلس الأمن ونظام بريتون وودز، لأنهما يعكسان موازين القوى التي كانت سائدة في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية في سنة 1945، ويحتاجان إلى تحديث، بما يتماشى مع الواقع الجديد في عالم اليوم، وبما يقضي على إحباطات بلدان نصف الكرة الأرضية. و
قد فسر رأيه بأن الهيكل المالي العالمي عفا عليه الزمن، ومختل وغير عادل، وفشل في أداء وظيفته الأساسية شبكةَ أمان عالمية، في مواجهة الصدمات الاقتصادية الناجمة عن جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا، فضلاً عن أن الدول الغنية لا تستطيع أن تتجاهل أن نصف العالم يعاني أزمات مالية عميقة، وأنها لم تفعل ما يكفي للقضاء على إحباطات بلدان نصف الكرة الأرضية.
من الطبيعي أن تتجاهل قمة الكبار في هيروشيما تلك التصريحات الجريئة التي تدعو إلى إحلال التوازن في القرار السياسي والاقتصادي العالمي، لأنها ببساطة تنزع منها الامتيازات التي منحتها لنفسها في مؤتمر النقد الدولي في منتجع برايتون وودز في الولايات المتحدة في سنة 1944، سعياً لضمان مصالحها التجارية في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وما ترتب على ذلك من إنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير.
التجاهل مفهوم، فالسبعة الكبار منشغلون بتأجيج سباق التسلح في أنحاء الكرة الأرضية، وتصعيد بؤر التوتر، وفرض مزيد من القيود والعقوبات على روسيا واستفزاز الصين وكوريا الشمالية، وإغداق الأموال الطائلة والأسلحة المتطورة على كييف، وغض الطرف عن كل مبادرة تسعى للتوسط لوقف الحرب في أوكرانيا، وليس البيان الختامي لقمتهم في اليابان سوى إعلان حرب اقتصادية يحفل بالغطرسة والتباهي باحتكار القوة والهيمنة.
نحن في المنطقة علينا عدم تجاهل المطلب العادل بإصلاح هيئة الأمم المتحدة، والمنظمات الدولية المانحة للمعونات والقروض، وقد كنا من أكثر دول العالم حصداً للهزائم ومرارات الغزو والاحتلال، ونهب الثروات، وفرض العقوبات، وعرقلة مشروعات التنمية بإدامة الفقر واتساع رقعة الإرهاب، بسبب اختلال القرار الدولي الصادر عنها، وكيله بميزانين، والذي تشارك في صوغه أطراف متضاربة المصالح، ولا يخلو العمل داخل هيئاته من فوضى وتربح وفساد مالي وإداري بات على كل لسان.
منذ عقود ومصر وعدد من الدول العربية والأفريقية تطالب بمقعد دائم للقارة الأفريقية في مجلس الأمن، كما يطالب به عدد آخر من الدول ومن بينها الهند والبرازيل. وكان من بين الدعوات الرامية لإحداث التوازن في القرار الدولي ليحظى بصفة أكثر تمثيلية وفاعلية، المطالبة بجعل قرارات الجمعية العامة ملزمة، شأنها في ذلك شأن قرارات مجلس الأمن.
ومن مصلحة العرب أن يعضوا بالنواجذ على اقتراحات غوتيرش وأن يحشدوا حولها غالبية دول الجنوب، وأن يجعلوها بنداً ثابتاً في جدول أعمالهم إذا كانوا يرغبون في إنهاء احتكار القرار الأممي، والذي طالما تعامل معهم كأيتام على موائد لئام!