ما زال في يدي ذاك المغلف، وما زلت أطل من تلك النافذة العتيقة، التي تكسوها زهور النرجس، هجرت ما في يدي من مظاريف، واكتفيت بمغلف واحد عليه رسالة واحدة بصفحة واحدة، كأن تلك الرسالة جرّتني إلى موطئ حتفي، ففي بدايتها سقتني من ذاك الكأس عسلاً، وفي نهايتها جرّعتني علقماً.
أخذت نفساً عميقاً، ناولتني مساعدتي قهوتي، وهي في حديث متواصل لا ينقطع، تنسج الكلام على هواها، وأنا في وضع غريب، ولا أخفيكم سراً أنني ما زلت تحت تأثير تلك الرسالة، لا أسمع ما تقول وكأنها في وضع صامت، لا أرى سوى تراقص شفتيها، وكأننا في «لعبة قراءة الشفاه»! ابتعدت عن ضجيجها، وعلى تلك النافذة شرد فكرى عن الطريق، حاد بعيداً عن تلك الرسالة، وذهب إلى شخصها. تشتت انتباهي، وعيناي مسمرتان على ساحة المدينة المطلة على شرفة مكتبي، انحبس لساني مع اندلاع نيران في صدري واشتعالها، وأنا أكرر في داخلي: من تكونين؟
في كل مرة عند فتح المظاريف أدخل نفسي في خلوة جميلة مع قهوتي، فهذا أحد أهم الطقوس، التي اعتدت عليها، وكما يقول محمود درويش: «حين تصبح القهوة شكلاً من أشكال الإدمان يصعب دونها أن نحس بالاسترخاء والراحة». أبحر بعيداً، بينما يلفتني أحد المظاريف، والضجيج المنبعث من تلك الساحة، والعابرون بين تلك المقاهي، وحركة الناس، وقراءة القصص، التي تسرد عند كل فنجان، وما يقع خلف كل طاولة، حديث مبهم، منهم من ينفرد بلقاء أصم، وحديث أصم، وعبق يسرد ملايين القصص! ومنهم من لا يكتفي بذلك، بل إن شغف اللقاء والحديث يحدث توتراً تقرأه الأعين، ومنهم من ينسى وجودها، ويكتفي بعبقها. سرحت بأفكاري بعيداً، وأخذني خيالي إلى ما يدور خلف كل طاولة، وفي تلك الأثناء وقعت عيناي على «هيلين» النادلة، التي تعمل في المقهى الواقع عند ناصية ذاك الشارع والمقابل لشرفتي الجانبية. أشعر أحياناً بأن هذا المقهى امتداد لمكتبي، لا أعلم ما هذا الشيء الذي يشعرني بذلك، قد تكون زهور النرجس، التي تحيط به أيضاً.
«هيلين» من أصل إغريقي، واسمها يعني الضوء أو النور، وهي كانت كذلك، عندما تتأخر مساعدتي عن إحضار قهوتي أشعر بوجودها، عندما تضع فنجان القهوة عند طرف النافذة من دون أن تحدث ضجيجاً، ولكن هناك من يحدث ضجيجاً، عطرها الساحر، الذي يشعرني دائماً بوجودها، وفي تلك الأثناء بدأ صوت الطير المزعج مع صوت المساعدة يصل إلى مسمعي، وكأنني رفعت عنهما حظر الصوت أو كتمه كما يسمى، قلت لها بهدوء وأنا أحاول إسكاتها: ما بك؟
قالت: - أخبريني عن هذه الرسالة!
- حسناً سأقتطف لك فقرة من سردها، وأنت من سيستخرج مفهومها.
تقول في رسالتها:
«يا صاحب القلب الجميل قد أصبح العرش عرشك، قد صار الملك ملكك، فلماذا تقتطف كل ليلة أغصان زهور النرجس، وتتغزل ببراءتها وجمالها، أما آن لك أن ترويها بكفيك سقياً، من بعد اقتطاف، فما نفع السقيا إذا نزعت الروح من الجسد».
أشعر برغبة في الحديث معها، وأن أستوضح وأستفهم الأمر منها، أريد أن تكشف لي ماذا تعني، لا أعلم لم وقعت عيناي على «هيلين» وأنا أقرأ رسالتها.
قلت لها: ماذا فهمت من هذه الرسالة؟ وبابتسامة مزعجة أخذت الرسالة من يدي، وقالت: سيدي لدينا من الأعمال ما يكفينا، ولسنا في وقت يسمح لنا بحل هذا اللغز، وصاحبها لا بد أن يفصح في يوم ما عما في داخله! ألقى اللَّه في قلبي الطمأنينة وهي تقول ذلك. قلت بصوت خافت وعيناي على «هيلين»: فعلاً يوماً ما، ولكن «متى يحين وقت الإفصاح؟ هل عندما يطفح منا الكيل، ويبلغ الأمر حدته، أم عندما نتجرع غصص الغيظ، ونفقد فيها السيطرة على أنفسنا ؟».